حكايات منسيَّة عند باب الأزج
عندما تقرأ رواية (عند باب الأزج) للروائية نيران العبيدي ستقتحمك روائح أزمنة غادرتنا ولم نعد اليوم جزءاً منها إلا بالتذكّر، عبق ماضٍ كان لنا بحلاواته ومراراته وانكسار ناسه، معاركهم وهزائمهم وأحلامهم، وطقوسهم الدنيوية والروحانية، كل شيء يقول لنا عند باب الأزج إنهم عاشوا هنا حتى وإن تعذر لقاؤنا بهم وجهاً لوجه، سنراهم في هذه الرواية من لحم ودم، فمن باب الأزج أمسكت نيران العبيدي بحكايات منسية لتعيد لها الحياة.
ولذاكرتنا ما نسيناه أو تناسيناه، ونيران العبيدي مهمومة بتلك الصفحات المدونة في بطون الكتب عن بغداد في الأربعينيات والخمسينيات، رجوعاً كلما اقتضت الضرورة أو متقدمة عن ذلك التاريخ للضرورة أيضاً، يتجاور التاريخي المدوّن مع الشفاهي بمخيلة كاتبة تزخر ذاكرتها بمفردات الحياة البغدادية أيام زمان، وذلك منذ روايتها الأولى (منعطف الصابونجية) وروايتها الثانية (أوراق الدفلى) وكذلك مجموعتها القصصية (فيروز الأحدب) ثم هذه الرواية التي نحن بصددها.
وباب الأزج هو الاسم الأصلي لباب الشيخ، وباب الشيخ هي المحلة التي يقع فيها ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني، ومعنى الأزج في معجم المعاني الجامع هو البناء المستطيل مقوّس السقف، ومن باب الأزج في زمنها الغابر يتشكل بناء رواية نيران العبيدي التي تراهن على حكايات ذلك الزمن بكل مفرداته وتحولاته الاجتماعية والسياسية، بعض الشخصيات جاءت من الرواية الأولى لتستكمل حيواتها القلقة في الحب والمطاردات والتخفي أو في البحث عن تاريخ الأسرة الذي اندثر منذ مئات السنين، وعلى الرغم من بساطة الحياة أيام زمان إلا أنها لا تخلو من تعقيدات بسبب المعتقدات الدينية والميول السياسية والفوارق الطبقية والانجراف في حب يشتبك مع تلك الظروف ويلقي لوناً داكناً على
الحياة.
سنتوقف كثيراً عند شخصيات مثل أحمد المسلماني الذي كان يهودياً باسم كرجي فلما أسلم تحول اسمه الى أحمد
المسلماني، وحسن باشا الطالب الذي جاء الى بغداد ليبحث عن جذوره العباسية التي تعود الى المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وحسين البهرزي الشيوعي المطارد الذي اختبأ بالحضرة الكيلانية وأصبح من مريديها، وضحى ابنة الأسرة الارستقراطية التي يعكر حياتها تاريخ خالتها بدرية التي هربت من البيت وقُتلت لأسباب عاطفية، تترك نيران العبيدي الحرية كاملة لشخصياتها لنعرف منهم كل ما مروا به وما يبحثون عنه، فهل تراهم سيصلون الى أهدافهم؟.
تعيش بغداد في ذلك الوقت بين ماديات الحياة وروحانيات النفس البشرية، وتنفتح على جميع التناقضات، الجوامع والحانات، الأفكار الماركسية والطرق الصوفية، بيوت محافظة وبيوت دعارة، والدنيا تتغير وتتبدل، ومثلما تغيرت تسمية باب الأزج الى باب الشيخ، فقد تغير اسم حديقة الملك غازي الى حديقة الأمة،
وانقلبت الدنيا بناسها، الفلاحون تحولوا الى أفندية لأن بغداد سحرتهم، والأفندية تعمموا إما بفعل تغير معتقداتهم أو للتخفي من رجال العسس، وخارطة بغداد تتشظى، الغني يزداد غنى ويعيش البذخ وشحاذون جياع يصطفون أمام باب الحضرة الكيلانية حتى يأتي أحد كبار القوم ليقدم لهم
الطعام.
تنتقل نيران العبيدي من هذا الزمن الى العصر العباسي وتداعيات سقوط الدولة العباسية من خلال بحث حسن باشا عن قبر جده اسماعيل باشا المدفون في حضرة عبد القادر الكيلاني منذ ذلك الوقت، فيلتقي أحمد سوسة الذي يهديه الى مكتبة الكيلاني، تفاصيل تطول في هذا اللقاء ولقاءات أخرى بينه وبين أحمد سوسة المؤرخ العراقي المولود في مدينة الحلة العام 1900 الذي تقلّد مناصب عديدة في المشاريع العمرانية الكبرى واهتم بحضارة العراق القديمة، ويستمر بحث حسن باشا في مكتبة عبد القادر الكيلاني إلا أن السجلات تقول إن المدفون في المكان الذي يعتقد أن اسماعيل باشا مدفون فيه يحمل اسم عبد الله الصانع، ولم يكل حسن باشا عن البحث حتى نهاية الرواية ليدرك بعد أن تصله رسالة من أحد المهتمين لأمره أن جده اسماعيل مدفون بحضرة الكيلاني فعلاً إلا أن شخصاً آخر يدعى عبد الله الصانع دفن فوق رفاته، وبذلك تضيع جهوده سدى.
التاريخ يسرع، ويتقلب، وينقلب بالساسة، ينقلب عبد الكريم قاسم على الشيوعيين، وينقلب البعثيون على عبد الكريم قاسم فيسقطونه لينتهي عهده بانتشار أفراد حزبه الحاملين رشاشات بور سعيد، في إشارة لدور جمال عبد الناصر في الانقلاب، ويستمر حمام الدم، ليُقتل الشيوعي حسين البهرزي في معركة غير متكافئة بعد أن اصطف الى جانب الفقراء العزل دفاعاً عن عبد الكريم قاسم، وسيُكتب في الكتاب المُرسل الى الطبابة العدلية (حسين البهرزي، يسكن في الطابق الثاني للحضرة الكيلانية، العمل مريد للطريقة القادرية ...) ص148.
خيوط متشابكة استطاعت نيران العبيدي أن تمسك بها وتجمعها في نسق روائي مشوّق، وكل شخصية تحتاج الى وقفة مطولة لا تسعها هذه المساحة، وإذا كانت لنا ملاحظة فهي معلومة نود تصحيحها للتاريخ على الصفحة 80 (صرائف تحت جسر الصرافية على شاطئ دجلة مقابل ملعب الكشافة تسمى خان محيسن)، للعلم فإن هذه المنطقة تدعى خان الحاج محسن وليس محيسن، ولا تقابل ملعب الكشافة الذي يقع في منطقة الكسرة.