.حصن الأخيضر بكربلاء شاهد تاريخي يحكي قصة حضارة عريقة
حصن الأخيضر اكتشفه رحالة إيطالي عام 1626 (الجزيرة)
منذ أن اكتشفه الرحالة الإيطالي بيترو ديلا فالي عام 1626، لم يزل حصن الأخيضر في محافظة كربلاء جنوب غرب العاصمة بغداد يثير الكثير من الأسئلة، فضلا عن الدهشة والتفسيرات والاستنتاجات التي تصب كلها في مسألة: من شيّد هذا القصر أو الحصن أو القلعة التي تقع في الصحراء؟ ولماذا؟
هل كان حصن الأخيضر قصرًا من قصور أسر السلطة الحاكمة؟ أم كان حصنا مسكونا من قبل الأهالي؟ أم كان قلعة يحتمي بها الحاكم وقواده والجنود من الغزوات والغارات التي تتعرض لها مدنهم آنذاك؟
أسئلة جعلت الباحثين والآثاريين يكتبون عنه المؤلفات الكثيرة التي لا تزال متواصلة حيث تدوّن الأقلام ما استجد من الأشياء، وكأن هذا البناء خاضع إلى الصراعات والاختلافات والخلافات السياسية، وزاد من ذلك أن شكله وطريقة بنائه غير واضحين لأي فترة زمنية أو عهد أو عصر يعود.
حصن الأخيضر يقع على بعد 50 كلم من مدينة كربلاء (الجزيرة)
الصحراء ودهشة البناء
على بعد 50 كلم من مدينة كربلاء، و152 كلم إلى الجنوب الغربي من العاصمة بغداد، وقبل الوصول إلى مفترق طريقين أحدهما يذهب بالمسافر إلى مدينة الرمادي والثاني إلى الحدود السعودية، يقع صرح شامخ لبناء أثري، لا شيء يحيطه سوى الصحراء، ولا شيء يمتد إليه سوى طريق معبّد من اتجاه واحدٍ تحيطه الرمال، وكان في يومٍ ما طريقًا للتجارة والحج والحروب أيضا.
البناء مدهش كأنه مهيأ لكي يبقى عصورًا ودهورا شامخا في بنائه المحكم، من خلال قوة صموده بوجه الصحراء وعواصفها وريحها العاتية، وقد ظلّ مميزًا بضخامته وتفرّده بفن البناء المعماري وسقوفه التي نقشت نقشًا بارعًا، وبجدرانه العملاقة وعلوها الفارع. ورغم كل هذا فإن أحدا لم يتمكن من تحديد من صممه ونفذه وخطّط له وأمر ببنائه بشكل قاطع، لكن الشيء المدهش أن الجميع، من مسافرين وحجاج وقوافل ورحالة باحثين عن الجديد، يدهشهم هذا البناء، ويحير أبصارهم ويثير فضول الجميع الذين أخذوا يبحثون عن حقيقته ولغز وجوده.
موقع حصن الأخيضر عند ملتقى الطرق والقوافل المارة بين مدن الكوفة والبصرة والموصل وبلاد الشام قديما
الاكتشـاف وتعدد الآراء
يقع القصر أو الحصن الأثري إلى الجنوب الغربي من صحراء مدينة كربلاء، وهي منطقة فيها الكثير من المعالم التاريخية والآثارية، فضلا عن بحيرة الرزازة التي تعد ثامن بحيرة في العالم من ناحية المساحة.
وقد جاء أيضا في دليل العراق السياحي أن حصن الأخيضر "يعد من أهم المنازل الواقعة على الطريق الذي يربط جنوب العراق بأعالي الفرات وسوريا"، وموقعه قديما عند ملتقى الطرق التجارية والقوافل المارة بين مدن الكوفة والبصرة والموصل ودمشـق وبلاد الشام.
الوزني أكد أن العديد من الرحالة الأجانب زاروا حصن الأخيضر وكتبوا عنه الكثير (الجزيرة)
ويقول الباحث في التاريخ حسن الوزني إن "الرحالة الإيطالي بيترو ديلا فالي أوّل من اكتشفه بالصدفة في العصر الحديث وهو في طريقه إلى بلاد الشام"، ويشير إلى أن هذا الرحالة وصف طريقة اكتشافه قائلا "في 29 يونيو/حزيران 1626 نهضنا منذ الفجر الباكر وسرنا ولم نتوقف إلى ما قبل منتصف النهار عند ماء يقع بالقرب من بناء عظيم، قديم العهد، مشيد بالآجر، شكله مربع كامل، له 13 برجًا مدورًا من كل جانب من الخارج. بعض أقسامه مشيدة على أقواس معقودة".
ويستمر بذكر ما قاله الرحالة "في داخل البناء قاعات عديدة وغرف بمنافذ كثيرة وفناء غير كبير، ولا أعلم أهو فناء أم أنه كان معقودًا فسقطت أجزاؤه، أم كان قصرا أم هيكلاً أم قلعة؟ لكني أميل إلى الاعتقاد بأنه كان قصرا"، ويقول الوزني إن المكان زاره العديد من الرحالة وكذلك المستشرق الفرنسي ماسينيون عام 1908 ووثق زيارته في وصف القصر وصفا دقيقا.
ويعرج الوزني على ما قامت به المستشرقة الإنجليزية غريترودبيل في عام 1914 بوضع مخطط شامـل ودقيق لجميع تفاصيل القصر، ورجحت أنه من الأبنية الإسلامية التي شيّدت في عصر الدولة الأموية، وعرّفته بموقع دومة الحيرة، واتفق معها عالم الآثار الألماني أوسكار رويتر بأنه من الأبنية الإسلامية، لكنه خالفها في نسبته إلى العصر الأموي.
الباحثون والرحالة والمؤرخون اختلفوا بشأن أصل تسمية حصن الأخيضر (الجزيرة)
التسمية وزمن البناء
الغرابة الأخرى في هذا الحصن أن لا أحد يذكر لماذا سمي بالأخيضر، وقد اختلف الباحثون والرحالة والمؤرخون حول أصل التسمية، حيث لم يرد ذكره في أسفار المؤرخين والجغرافيين العرب طيلة العصور الإسلامية الوسطى، وكذلك في كتب التاريخ العربي، ولكنه ظل متداولا على ألسنة الأعراب والبدو والرعاة المارين بقربه، ولهذا كثرت الأسماء والاشتقاقات والتحليلات بحسب الزمن والرؤية.
فقد ذكر الباحـث العراقي والعالم الديني محمود شكـري الآلوسي إن اسـم الأخيضر "محـرف من كلمة (أكيدر) الذي بناه أحد أمراء قبيلة كندة والذي أسلم في صدر الإسلام"، في حين يعتقد المستشرق ماسينيون أن بناءه "ساساني، وأنه قصر السدير المشهـور"، أما المهندس شريف يوسـف فيذكر في كتابه "تاريخ فن العمارة في مختلف العصور" أن "تاريخ الأخيضر الزمني ما زال معلقا لأن البناء غفل من جميع الكتابات التي تؤرخ له، لذلك اختلف المؤرخون في تحديد زمن بنائه".
أحد أجزاء حصن الأخيضر في محافظة كربلاء جنوب بغداد (الجزيرة)
وكانت الباحثة وعالمة الآثار البريطانية مس بيل -التي عملت في العراق مستشارة للمندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس في عقد العشرينيات- أول من فطن إلى وجود الجامع فـي القصر عام 1909، مما جعلها تذهب إلى أنه "دومة الجندل التي شيدت في زمن الأمويين". أما العالم لويس موسيل أحد مستشرقي الإمبراطورية النمساوية المجرية وأحد مشاهير الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الجزيرة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد رجح بناء القصر في سنة 277 هـ/890 م، ونسبه إلى "والي الكوفة إسماعيل بن يوسـف الأخيضر حيـث جعله القرامطـة العرب الشرقيون قاعدة لهم في الشمال".
ويذهب الباحث الوزني إلى أنه رغم الاختلاف، فإن "الحصن بنته أيادٍ عراقية عربية إسلامية استمدت تصميمه من التراث العراقي الأكدي القديم".
وتؤكد الباحثة نعمت إسماعيل أعلام في كتابها "فنون الشرق الأوسط والعالم القديم" أن حركة العمارة المدنية "نشطـت نشاطا كبيرا فـي العصر العباسي الأول حيث اهتم الخلفاء بتشييد قصور لهم في المدن التي أنشؤوها، كما أقيم قصر الأخيضر غرب كربلاء"، وتضيف "تتميز جميع هذه القصور بمتانة عمارتها وبوسائل الرفاهية المزودة بها، كالحمامات والنافورات، كما زخرف بعضها بالتصاوير الجدارية وكسيت بالزخارف الجصية، ولقد وجدت بين هذه الزخارف بلاطات"، وهو ما يعني أن القصر من البناء العباسي وفقًا للطرز المعمارية والهندسية.
القصر مشيد بالحجـر والجص
العصر العباسي
القصر مشيد بالحجر والجص، وبعض أجزائه بالآجر والجص، وكذلك قطع الحجارة المخلوطة بـ"المونة" مما ساعد على بقائه، وكشفت التحريات الأثرية في القصر عن وجود آثار مثل قطع فخار وخزف تعود إلى العصر الإسلامي، وتم العثور على مسكوكات نقدية تعود إلى العصر العباسي.
ويقدم الباحث الوزني مجموعة من الاستنتاجات، من ذلك أن "القصر جمع بين العناصر المعمارية التي عرفت في مشيدات البنى التحتية في إيران والعراق في فترة الحكم الساساني، كما أنه يشبه نمط طراز القصور الساسانية التي وجدت بالمدائن".
ويرجح الوزني أن "القصر مشيد منذ القدم ولكن الحاكم عيسى بن موسى الذي كان حاكمًا على الكوفة في عهد الخليفة العباسي المنصور استغله قصرا صيفيا للصيد والنزهة"، ويضيف أن "القصر لا يعدو عن كونه حصنا أو قلعة شيّدت وسط الصحراء، هدفها حماية واستراحة القوافل على طريق التجارة البرية بين العراق وبلاد الشام وإلى غرب شبه الجزيرة العربية حيث يقع بين طريق القوافل".
ويرى أن القصر "مرّ بتطورات عمرانية كثيرة، وهذا يدل على أن الحياة الطبيعية استمرت في هذا القصر والمنطقة المحيطة به لعدة قرون متواصلة، إلى أن حل الجفاف في المنطقة فهجره الناس".