قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فَتُوضِحَ فَالـمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها
لِـمَا نَسَجَتْها مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ
ليس ثَمَّة أحد من جمهور القرَّاء الواسع باتساع الجغرافيا العربية والعالمية قرأ واطلع على هذا المشهد البكائي من مدخل معلَّقة امرئ القيس ابن حجر الكندي أو غيرها من قصائد العصر الجاهلي، ونجا من صدمة الإدهاش الحقيقية في السياق الأسلوبي والفني لبناء النصوص بما تحويه من مخزون مفاهيمي وثقافي ولغوي ثري حد الإعجاز الذي يختزل في مذهباته العشر المشهورة تفاصيل حياة المجتمع العربي في العصر الجاهلي بكل أبعاده الفكرية والسلوكية.
والملاحظ أن تحوُّلات الحياة وأساليبها ووسائل التواصل الإنساني، وغربة المسميات الواردة في الأبيات كـ (سقط اللوى، الدخول، حومل، توضح، المقراة) قد تنفِّر القارئ الذي لا يعرف أن هذه المفردات أسماء أمكنة تتقارب مع بعضها، وكانت مسارحَ لأحبة امرئ القيس، الذين انتقلوا فجأة إلى أماكن أخرى بحثاً عن الماء والمرعى، كما كانت حياة العرب المتنقِّلة التي جعلت الوقوف على الأطلال من أهم سمات الشعر الجاهلي بصفة عامة والمعلَّقات بصفة خاصة.
هذا الغموض الناجم عن مفارقات الزمن والمكان جعل شريحة واسعة من الشباب المعاصر ينفر عن قراءة الأدب العربي الجاهلي الذي تمثِّل المعلَّقات أهم شواهده الإبداعية، هروباً من عمق منطوقها اللغوي الموغل في الزمن، ومفرداتها الصعبة التي تتطلَّب شرحاً دقيقاً يذهب بإلمام إلى أسماء الأمكنة والأشياء في زمن إنتاج النصوص.
إن إعادة تقديم المعلَّقات وفق طرح مقارب لثقافة اليوم ظلَّت حلماً يراود كثيراً من النخب العربية منذ زمن طويل. والآن، بعد جهود مشتركة بين مجلة القافلة ومركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "إثراء"، خرج إلى النور كتاب "المعلَّقات لجيل الألفية" الذي يُعدُّ أبرز إنجاز معرفي معاصر استهدف جسر الهوة بين مناطق الزمن العربي الثلاث (الماضي والحاضر والمستقبل) ليؤكد مكانة اللغة العربية وسحرها ومرونة اتساقها العابر لتحوُّلات الزمن.
جوهر المشروع
وأرى أن المشروع يقوم في جوهره على تحقيق هدفين رئيسين، أولهما: تقريب اللغة العميقة إلى لغة سهلة يستسيغها قارئ القرن الواحد والعشرين غير المتخصص، والمأسور بالمشاهد البصرية اليومية المتخمة بتحوُّلات الحياة المتسارعة أكثر من اهتمامه بالنصوص المعقَّدة والصعبة، في موروثه الأدبي. وثانيهما، تحقيق الوظيفة المرجعية للقارئ والباحث المتخصص، الذي سيعفيه هذا الكتاب من التنقيب عن كل ما يتصل بالقصائد العشر الشهيرة من أحداث وحيثيات وأمكنة وشخصيات عاشت في زمن إنتاجها. فقد قدَّم الكتاب مادة شاملة بالشرح المبسط لهذه النصوص وفق مسارين لغويين هما اللغة العربية واللغة الإنجليزية. فوفر الأول بياناً واضحاً بتقنية أسلوبية بارعة في تفكيك كل معلَّقة، وقدَّم الثاني ترجمات دقيقة على شكل سياقات نثرية مستنبِطة أهم الرسائل الإنسانية في معاني النصوص، من دون إغفال الفرادة الفنية للبُعد الشعري التصويري الذي يضع القارئ في المشهد الزمني لابتكار وإبداع تلك القصائد.
لقد حلَّق الكتاب بأسلوب فني بديع في الجغرافيا والأمكنة التي ولدت فيها تلك النصوص كنتاج طبيعي لمعايشة الشعراء لأحداث وعواطف وانتماءات اجتماعية وقيمية شكَّلت وجدانهم الدافق بتلك الشاعرية مقدِّماً صورة متكاملة تليق بسفر المعلَّقات عبر الزمن والمكان والثقافات.
وقدَّم الكتاب مع كل معلَّقة خلفية عن الشاعر ومنزلته وحيثيات قصيدته وما دار حولها عبر التاريخ، وربط قصص شعراء المعلَّقات بقصص شخصيات أدبية في آداب وثقافات أخرى، موضحاً الأبعاد المحلية والعالمية والمعاصرة لكل معلَّقة. كما اعتمد أسلوب الشرح - حسبما أشارت إليه مقدِّمة الكتاب - على تقسيم المعلَّقة إلى لوحات فنية منفصلة، ثم صياغة شرح وتأويل كل لوحة على حدة بناءً على التميُّز النسبي لثيمات المعلَّقة.
وفي كل لوحة، يصافح القارئ في الهامش الأيسر قسم اللغة لشرح معاني الكلمات، وذكر المقابلات المعاصرة لأسماء المواقع والأمكنة الواردة في الأبيات كما هو في البيتين الأولين من معلَّقة امرئ القيس المشار لهما آنفاً.. إضافة إلى تعريف مختصر جداً بالشخصيات الواردة في النص. وتحت الأبيات يبدأ الشرح ويتفاوت طولاً وقصراً، لينتهي وقد أوضح الثيمة الرئيسة للوحة، وإسهام كل بيت في تشكيلها.
لقد حظي مشروع الكتاب الناجز والماثل بين أيدي قرَّاء العربية والإنجليزية، ورقياً وإلكترونياً، باهتمام النُخب الفكرية والإعلامية العربية، وما يتمناه كثير منهم هو أن تتعدُّد الترجمات للكتاب بلغات أخرى تشمل أمم الشرق والغرب. ومن واجب الدوائر المعرفية العربية ذات العلاقة بالقرار التعليمي إدخال الكتاب في مناهج التعليم المدرسي والجامعي في الوطن العربي، كونه إنجازاً كفيلاً بربط الأجيال الحاضرة والمستقبلية بموروث أمتنا العربية القومي الأصيل.