هو البطل الشجاع والأمير المُحَنَّك أبو المظفر شهاب الدين محمد بن سام الغوري، قائد القبائل الغورية ومُؤَسِّس الدولة الغورية، وهو مَنْ أعاد الدولة الإسلامية إلى هيبتها كما كانت أيام محمود بن سبكتكين، وقد جاهد وانتصر في عدَّة جبهات، إلى أن تآمر عليه أعداؤه فأوكلوا الباطنية لقتله، حتى اغتالوه وهو يُصَلِّي في المحراب.
البشتونيون والغزنويون
يرجع أصل القبائل الغورية إلى الجنس البشتوني الأفغاني، وكانت تستوطن جبال الغور، وهي بلاد واسعة وباردة وموحشة، تقع بين غزنة وهراة -وسط أفغانستان الآن- مما جعلت طبيعتهم قويَّة وصلبة، وقد دخل بعضهم الإسلام على يد السلطان محمود بن سبكتكين وذلك سنة (401هـ= 1010م)، وبعدما حاربهم وعرف قوَّتهم وشجاعتهم حرص كل الحرص على أن يكونوا من جند الإسلام، فدعاهم للدين فدخلوه أفواجًا، فأقرَّهم محمود على أملاكهم، واستعملهم لنصرة الدين، وأرسل إليهم الدعاة والمعلِّمِينَ؛ فحسُنَ إسلامهم، وكانوا من أخلص أعوان محمود بن سبكتكين، وساعدوه في كثير من الحروب ببلاد الهند، وكانت أُمُّ السلطان محمود الغزنوي -أيضًا- من قبيلة غلزاي البشتونية من منطقة زَابُل القريبة من قندهار.
سقوط الغزنويين
سُنَّة الاستبدال؛ السُّنَّة الربَّانية التي تعمل في الأمم والدول والجماعات؛ حتى الأفراد بلا محاباةٍ ولا جورٍ، فمَنْ ركبَ طريق التمكين وأخذ بأسباب البقاء والقوَّة، ظلَّ باقيًا صامدًا ظاهرًا بإذن الله –عز وجل- وحده، ومَنْ ركب طريق الفُرقة والاختلاف، وأخذ بأسباب الزوال والذهاب والفشل، حتمًا لا بُدَّ من أن يكون مصيره السقوط والنهاية، وهذا ما حدث بالفعل مع الدولة الغزنوية أو السبكتكينية؛ التي أصابها الوهن، ودبَّ الضعف وحبُّ الدنيا في قلوب ملوكها، واختلفوا فيما بينهم، واقتتلوا على الدنيا، بعدما قاموا بنصب سوق الجهاد ونشروا الإسلام في الهند لعهود طويلة؛ مما سمح لكفَّار الهند أن يرفعوا رءوسهم مرَّة أخرى، ويخلعوا الطاعة، ويطردوا المسلمين من بلادهم، ولأن الله عز وجل ناصرٌ دينه، ومظهرٌ شريعته فإنَّ من مقتضيات هذه السُّنَّة أن يتولَّى أمر الدين قومٌ آخرون؛ يحوطونه بالحماية وينشرونه، ويكونون على مستوى هذا الدين؛ لذلك لما دبَّ الضعف في الدولة الغزنوية استبدلها المولى –عز وجل- بالدولة الغورية وقائدها الأمير المظفر شهاب الدين الغوري؛ حيث ورث الغوريون الدولة التي سقطت بالكلية سنة (582هـ= 1186م).
إعادة الأمجاد
كانت الدولة الغزنوية قد بلغت أَوْجَ قوَّتها واتِّساعها في عهد سلطانها العظيم محمود بن سبكتكين، وولده مسعود، وشملت المنطقةَ الشاسعةَ من إيران وشمال الهند كله والسند والبنجاب وحوض الجانج حتى البنغال، ولمَّا أصابها الضعف والوهن أخذت أجزاءٌ كثيرة من هذه الدولة في السقوط في يد الكفَّار مرَّة أخرى ومَنْ عاونهم من الفرق الضالَّة، التي لا تقلُّ كفرًا بل تزيد بنفاقها عن الكفار الأصليين؛ أمثال: فرقة القرامطة، والشيعة الإسماعيلية، وانتزعت الكثير من أملاك الغزنويين؛ حتى بإيران مركز دولتهم.
بدأ شهاب الدين الغوري رحلته الجهادية مبكِّرًا، وبدأها كما بدأها من قبلُ محمود بن سبكتكين ومن النقطة نفسها من المُلْتَان، وكان هذا الإقليم يقع تحت قبضة القرامطة الكفَّار، وبالفعل استخلص شهاب الدين المُلْتَان من يد القرامطة سنة (570هـ= 1175م)، ثم أعقب ذلك استعادة بيشاور، وأخضع حوض السند جميعه؛ رغم الخسائر الفادحة التي تحمَّلها جيشُه على يد كفَّار الهند وشمالها إلى خليج البنغال.
التحالف الهندوسي
شعر أمراء الهند بخطورة الأمر وعودة التهديد الإسلامي من جديد بعدما ظهر أسد جديد على الساحة وهو شهاب الدين الغوري، وقرَّرُوا التحالُف فيما بينهم؛ فيما عُرِفَ بتحالُف أمراء منطقة الأنهار الكبرى في شمال شبه الجزيرة الهندية، وهذه المنطقة تُعرف باسم الهندستان؛ وفيها أخصب بلاد الهند، وهي أكثفها سكانًا، وهؤلاء الأمراء دفعهم الحقد على الإسلام وتحريض الكهنة البراهمة وخوفهم على أملاكهم وعروشهم أن يُبادروا المسلمين بالعداوة والقتال؛ مستغلِّينَ بعض الأحداث الداخلية في الدولة الغورية، وانشغال شهاب الدين بالقضاء على بعض الاضطرابات والفتن الداخلية.
جهاد شهاب الدين الغوري على كل الجبهات
كان شهاب الدين الغوري يَحْلُم بأن تكون بلاد الهند كلُّها مسلمة، وأن يستكمل الدور الرائع الذي قام به من قبل السلطان محمود بن سبكتكين؛ بل كان شهاب الدين يُحِبُّ أن يتشبَّه كثيرًا بمحمود بن سبكتكين؛ وظهر هذا جليًّا في العديد من المواقف، ولكن الأمور لم تكن مواتيةً مثلما حدث أيام محمود بن سبكتكين؛ ذلك لأن شهاب الدين الغوري قد اضطر للجهاد على العديد من الجبهات الداخلية والخارجية، وكان ينتقل من الهجوم إلى الدفاع والكرِّ والفرِّ، من الهند إلى خراسان إلى الصين إلى إيران.. وهكذا، يُقاتل كفار الهند، وكفار الترك، والباطنية الكفار، وأيضًا طُلَّاب الدنيا من المسلمين الطامعين المفسدين؛ لذلك فلقد قضى شهاب الدين الغوري حياته كلها لم يعرف بيتًا ولا راحة، ولا يُلاعب ولدًا ولا يهنأ بأسرة واستقرار؛ بل مِنْ على ظهر الخيل إلى ظهر الخيل، ومن ضرب السيف إلى رمى السهم.. وهكذا.
جهاد شهاب الدين الغوري ضد كفار الهند
كان أمراء الهندوس هم العدوَّ الأكبر والأصلي في معارك شهاب الدين الغوري، وكان لقاؤه الأول معهم في غير صالح المسلمين؛ وترك أثرًا شديدًا على شهاب الدين الغوري، وذلك سنة (596هـ= 1199م) عندما دخل المسلمون مدينة شرستي واحتلُّوها، وكانت من أغنى وأكبر مدن الهند، فهجم التحالُف الهندوسي بقيادة كبيرهم بريتي (والذي تُسَمِّيه المراجع العربية كولة) على المسلمين، ودارت رحى معركة من أشدِّ ما لاقى المسلمون من قتال في الهند، وانهزم بعض الأمراء الغوريين، وفرُّوا من أرض القتال، وظلَّ شهاب الدين يُقاتل بنفسه؛ حتى إنه من شدَّة القتال قتل عدَّة أفيال بسيفه ورمحه، ثم أُصيب إصابةً بالغةً، وتكاثر عليه الكفَّار ليأخذوه؛ فدافع عنه جنوده، وحملوه مصابًا ينزف الدم مسافة أربعين كيلو مترًا حتى خافوا موته، ولمَّا عاد إلى لاهور أخذَ أمراءَ الغورية المنهزمين من أرض المعركة وعلَّق على كل واحد منهم عليق شعير، وقال لهم: «ما أنتم بأمراء إنما أنتم دواب». وألزمهم المشي حتى غزنة (1).
ظلَّ شهاب الدين الغوري يُجهِّز لقتال الهندوس وردِّ الهزيمة، وأخذ العُدَّة اللازمة، وجهَّز جيشًا كبيرًا، وكان ما زال ناقمًا على أمراء الغورية منذُ فرارهم في المعركة السابقة، وعزم على ألَّا يصطحبهم معه في القتال ضدَّ الهندوس، فحاول بعض شيوخ القوم استرضاءه عنهم؛ فقال شهاب الدين كلماتٍ تُعَبِّر عن النفسية المؤمنة الصادقة، التي تستشعر ما عليها من واجباتٍ تجاه نصرة الدين والعمل للإسلام، وتُظهر مدى قوَّة قلب هذا البطل الشجاع وحساسيته الدافقة، قال: «اعْلَمْ أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي على فراش، ولا غيَّرْتُ ثياب البياض عني (أي ثياب الكفن)، وأنا سائر إلى عدوِّي معتمد على ربي –عز وجل- لا على الغورية ولا على غيرهم، فإن نصرني الله سبحانه ونصر دينه فمن فضله وكرمه، وإن انهزمنا فلا تطلبوني، فلن أنهزم ولو هلكت تحت حوافر الخيل (2).
بعد هذه الرسالة الجلية اهتزَّت قلوب الأمراء الغورية، وحلفوا جميعًا على القتال حتى الموت وعدم الانهزام؛ مهما حدث في أرض المعركة.
عاد شهاب الدين الغوري إلى الهند بجيش بلغ قوامه مائة وعشرين ألف مقاتل بعد عام واحد من الهزيمة السابقة، فبرز له ملك الهند بريتي في جيش قوامه ثلاثمائة ألف مقاتل أو يزيدون، واستخدم شهاب الدين الغوري حيلة حربية ذكية؛ حيث قَسَّم جيشه إلى جزئين وهجم على الهندوس فجأة عند الفجر، فأمضى المسلمون فيهم القتل، وحاول بريتي الفرار، فقال له أصحابه: «إنك حلفت لنا أنك لا تُخَلِّينَا وتهرب». فنزل من على فرسه وظلَّ يُقاتل حتى وقع أسيرًا في يد المسلمين، وحاول بريتي أن يفدي نفسه بأموال طائلة هائلة، ولكن شهاب الدين علم أن بقتل بريتي يسهل سقوط الهند؛ فرفض قبول الفدية وقتله، وهو يُؤَكِّد بذلك على معنى رسالة الجهاد في الإسلام؛ فهو ليس للدنيا ولا للأموال ولا للغنائم ولا لشهوة القتل والتملُّك؛ بل هو لأسمى المطالب لنشر الإسلام وتبليغ الدين، وإزاحة الطواغيت الذين يقفون على آذان الناس، ويصدُّونهم عن سماع الحقِّ.
كان هذا النصر المبين إيذانًا بانهيار سلطان الأمراء الهندوس، وبداية السلطان الحقيقي للإسلام في منطقة الهندستان؛ فلقد استولَّى شهاب الدين الغوري على مدن شرستي وكهرام وهنسى وأجمير، وحطم أصنام الهندوسية والبوذية في الهندستان، واستعمل أحجارها في بناء المساجد، وعهد الأمير شهاب الدين الغوري إلى مملوكه وقائد جيوشه قطب الدين أيبك بولاية المدن الهندية المفتوحة، وكان قطب الدين أيبك لا يقلُّ شجاعة ولا إخلاصًا عن أستاذه، فثَبَّت أقدام المسلمين هناك، واتخذ دلهي عاصمة له، وبنى الجامع الشهير قطب منار، كما تصدَّى قطب الدين لفلول التحالف الهندوسي، وانتصر عليهم في معركة حامية الوطيس في سهل جندوار سنة (591 هـ= 1195م).
في الوقت نفسه الذي كان قطب الدين أيبك يُرَسِّخ أقدام الإسلام بالهندستان، أرسل شهاب الدين الغوري بطلاً آخر من قادة جيوشه واسمه محمد بن بختيار الخَلْجي إلى ناحية الشرق؛ حيث منطقة البنغال، وهي معقل البوذية في الهند كلها، ففتحها وحطَّم معابدها، وأظهر شعائر الإسلام بها، وذلك سنة (599هـ= 1203م)، وفي نفس السنة استطاع قطب الدين أن يفتح حصن كلنجر أمنع حصون الهند، وبسقوطه لم يبقَ في الهند مكان لم يدخله الإسلام باستثناء صحراء الجنوب.
جهاد شهاب الدين الغوري ضد كفار الأتراك
الجنس التركي يشمل كل القبائل الواقعة وسط وشرق الهضبة الإيرانية حتى أقصى شرق الصين، وأيضًا بلاد القوقاز ومنغوليا، وهذه القبائل كان منها المؤمن ومنها الكافر، وأمثال القبائل المؤمنة السلاجقة والتركمان والغوريون والخوارزميون، وأمَّا القبائل التركية الكافرة الوثنية فكانت تتجمَّع تحت لواء كبير وتحت أقوى هذه القبائل؛ وهي قبائل القراخطاي، وأصلهم في غرب الصين، وكان نهرا سيحون وجيحون هما الحدَّ الفاصل بين هذه القبائل الكافرة وبلاد الإسلام.
كانت هذه القبائل شديدة البأس كثيرة الفساد؛ تؤذي جيرانها المسلمين، وتفرض عليهم الجزية، وتُكثر من الإغارة عليهم، وكان من الطبيعي أن يتصدَّى لهم بطل الإسلام المقدام في هذه البقعة من الأرض، وتَتَّجه أنظار المسلمين كلها إليه؛ وبالفعل تصدَّى لهم شهاب الدين الغوري، ومنع تقدُّمهم وعبورهم لنهر جيحون؛ ولكن الطامَّة الحقيقية والحقيقة التاريخية الثابتة والمحزنة للقلب حقًّا هي أن هذه القبائل إنما تحرَّكت لحرب شهاب الدين والمسلمين بتحريض من ملك مسلم آخر؛ وهو خوارزم شاه، وكان مُلْكُه متَّسع للهضبة الإيرانية كلها، وقد ورث الرجل ملك دولة السلاجقة العظيمة؛ ولكنه كان رجلًا لا يُبالى إلَّا بمصالحه الخاصة وأملاكه وأمواله، وكان مُلكه المتَّسع وما ورثه من أملاك السلاجقة دافعًا له لأن يطلب من الخليفة العباسي الناصر بالله منصب السلطنة والخطبة ببغداد، فأرسل الخليفة إلى شهاب الدين الغوري يطلب منه أن يمنع خوارزم شاه من التقدُّم لحرب الخليفة، وعندها خاف خوارزم شاه من قوَّة شهاب الدين الغوري، وأرسل إلى ملوك القراخطاي الكفار وأغراهم بالهجوم على الدولة الغورية، وكان شهاب الدين قد أخذ من قبل بعض بلاد القراخطاي، فقويت عزائمهم على حرب شهاب الدين والمسلمين.
استغلَّ الكفار خروج شهاب الدين الغوري للغزو في بلاد الهند وهجموا بأعداد كبيرة على بلاد الغور، وعظمت المصيبة على المسلمين لغياب شهاب الدين وضخامة العدوِّ، ولكن الله –عز وجل-الذي وعد بحفظ دينه، ونُصرة جنده- قيَّض للمسلمين عدَّة أبطال من أعوان شهاب الدين؛ مثل: الأمير محمد بن جربك، والحسين بن خرميل، وحروش الغوري، واجتمع عندهم المجاهدون والمتطوِّعون من كل مكان، وهجموا على جيش القراخطاي ليلاً، ووضعوا فيهم السيف، واشتدَّ القتال بين الفريقين، واسْتُشهد حروش الغوري، وكان شيخًا مسنًّا، فالتهبت مشاعر المسلمين، وألقَوُا السهام والرماح، وصار القتال بالسيوف والفئوس فقط، وانتصر المسلمون انتصارًا هائلاً؛ جعل عقل ملك القراخطاي يطيش وينقلب على خوارزم شاه، ويطلب منه ديةً لكلِّ قتيل كافر عشرة آلاف دينار ذهبًا؛ وهذا ما جعل خوارزم شاه يطلب العفو والصفح من شهاب الدين، الذي قبل العفو شريطة دخول خوارزم شاه في طاعة الخليفة العباسي، فوافق خوارزم الذي كان يُغَيِّر ولاءه ويقلبه حسب هواه وأطماعه، ووقعت كراهيته في قلوب كل المسلمين شرقًا وغربًا، والعجيب أن هذا الرجل النكبة عاد وحالف القراخطاي من جديد، وأغراهم بشهاب الدين، ودلَّهم على أماكن ضعفه؛ فهزموا شهاب الدين في معركة رهيبة سنة (600هـ= 1204م) كاد يُقتل فيها شهاب الدين وتنهار دولة الإسلام في الهند بسبب ذلك.
جهاد شهاب الدين الغوري ضد الزنادقة والباطنية والفرق الضالة
كانت منطقة الهضبة الإيرانية وبلاد الهند مرتعًا خصبًا وواسعًا للأفكار الضالَّة والعقائد المنحرفة؛ حيث كانت مهبط ومعدن الفلسفة والمنطق والتأمُّلات البراهمية والعقائد المجوسية والفارسية، فلا عجب أن تبقى آثار تلك العقائد الضالَّة في تلك البقاع؛ ولذلك كان السلطان العظيم محمود بن سبكتكين شديد الاهتمام بتطهير كلِّ بلدٍ يفتحه أو يملكه من آثار تلك العقائد والفرق الضالَّة، وقضى على كل المذاهب المخالفة لأهل السُّنَّة والجماعة، وسار على دربه الأمير شهاب الدين الغوري، الذي كما قُلنا من قبل شديد الشبه بمحمود بن سبكتكين، ودائم الاقتداء به؛ فقد كان شهاب الدين الغوري شافعيًّا على عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، شديد الحبِّ والإيمان بالإسلام، يكره أهل البدع والفساد، شديدًا على الفرق الضالَّة؛ خاصة فرقة الإسماعيلية الباطنية، فقد كان يقتل مَنْ يجده منهم، ويُخَرِّب قراهم، ويُلزمهم بالدخول في الإسلام وإظهار شعائره، وكان شهاب الدين الغوري على يقين أن الملاحدة والزنادقة من أتباع الفرق الضالَّة هم الخطر الأكبر؛ الذي يُهَدِّد سلامة الأُمَّة الإسلامية، وينخر في جسدها، وأنهم يتربصون بهذه الأُمَّة الدوائر، وأن عداوتهم وكفرهم أشدُّ وطأة وأذًى على المسلمين من الكفار الأصليين.
عندما تحالف الخائن خوارزم شاه مع قبائل القراخطاي ضدَّ شهاب الدين والمسلمين ودلَّهم على عورات جيش شهاب الدين، ووقعت الهزيمة على المسلمين، سرت شائعة في البلاد أن شهاب الدين الغوري قد قُتل في المعركة، وعندها تطاول كلُّ ملحد وزنديق ومجرم ومفسد وطامع في الدنيا؛ ومن هؤلاء أحد مماليك شهاب الدين واسمه أيبك بال، الذي نَصَّب نفسه سلطانًا على المسلمين مكان شهاب الدين، وأعانه على ذلك أحدُ الزنادقة ويُدعى عمرو بن يزان، وأخذ أيبك بال في ظُلم الناس وسفك دماءهم وأخذ أموالهم، وتجمَّع حوله كلُّ اللصوص وقُطَّاع الطرق، واتَّسع المجال للزنادقة والملاحدة في نشر أفكارهم وعقائدهم، ولمَّا عاد شهاب الدين الغوري من القتال ووجد الأمر هكذا أمر بالقبض على هؤلاء المفسدين والزنادقة، وأمر بقتلهم، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33 ].
وشنَّ شهاب الدين الغوري حملة واسعة وشاملة على قرى وبلاد الإسماعيلية؛ حتى الموجودة خارج نطاق مملكته؛ ليُطَهِّر بلاد الإسلام كلها من هذا الجنس الخبيث.
كانت الشائعة التي سرت بعد هزيمة شهاب الدين من القراخطاي عن مقتله السببَ في كشف مكنون صدور الكثيرين، وسبحان الله كما قال –عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فقد كانت الهزيمة كريهة وأليمة على نفس المسلمين عمومًا، وشهاب الدين خاصةً؛ ولكنها كشفت حقيقة كثيرين ممَّن كانوا حول المسلمين؛ من هؤلاء كان أمير منطقة الجودي واسمه دانيال، وكان قد أسلم خوفًا من بطش شهاب الدين، فلمَّا وصلته شائعة مقتل شهاب الدين ارتدَّ عن الإسلام مرَّة أخرى، وحالف قبيلة تركية كافرة اسمها قبيلة بني كوكر ومساكنهم في جبال لاهور والمُلْتَان؛ وهي حصينة ومنيعة، وقام هذا التحالف بالإغارة على بلاد المسلمين، وقطعوا السبيل، ونهبوا قوافل التجارة، وكان شهاب الدين في هذه الفترة يُجَهِّز الجيوش لمحاربة القراخطاي وردِّ الهزيمة، فلمَّا وقف على حقيقة الوضع غَيَّر عزمه وقرَّر البدْءَ بهؤلاء المرتدِّين والكافرين في مملكته، وهذا يُوَضِّح فهم شهاب الدين لترتيب الأولويات؛ والبدء بالعدو الأقرب، الذي هو عادة أخطر.
أعدَّ شهاب الدين الغوري جيوشه بسرعة من اتجاه الشرق إلى الشمال، وهجم كالأسد الضاري على الخونة والمرتدِّين يوم الخميس 25 من ربيع الأول سنة (602هـ= 1206م)، واشتدَّت مقاومة الكفار، وكان شهاب الدين قد قَسَّم جيشه إلى جزئين: جزء يقوده هو بنفسه ويتولَّى الاصطدام المباشر مع الكفار، وجزء آخر يقوده أنجب تلاميذ شهاب الدين الأمير البطل قطب الدين أيبك؛ يكون كمينًا يظهر في اللحظة الحاسمة، وبالفعل ظهر قطب الدين بجيشه عند اشتداد القتال، وتنادَوْا بشعار الإسلام: الله أكبر. وحملوا حملة صادقة على الكفار الذين انهزموا، وأَمْعَن المسلمون فيهم القتل، وفرَّ الكفار وصعدوا إلى تلال، وهناك أضرموا فيها النار؛ فكان أحدهم يقول لصاحبه: «لا تترك المسلمين يقتلونك» (3). ثم يُلقي بنفسه في النار. فعمَّهم الفناء قتلاً وحرقًا، وغنم المسلمون غنيمة هائلة؛ حتى إنَّ كلَّ خمسة أسرى يُباعون بدينار، واشتدَّ هذا النصر المبين على كل كافر وملحد وزنديق ومرتدٍّ في هذه البقعة من الأرض.
شهيد المحراب
وجد أعداء الإسلام -على اختلاف مشاربهم وأهوائهم- أنه لا سبيل للانتصار على هذا الدين إلَّا باغتيال رأس المسلمين وبطلهم المقدم، الذي يستطيع أن يجمع الجيوش ويشحذ الهمم، ويُنافح عن دين الإسلام، ولم يجد أعداء الإسلام أفضل من الباطنيين الكفرة ليُوكلوهم في تلك المهمَّة القذرة؛ فالباطنيون خبراء في أساليب الاغتيال، وبالفعل تسلَّل نفر من الباطنية الإسماعيلية إلى جيش شهاب الدين الغوري وهو خارج لقتال قبائل القراخطاي الكافرة، وأظهر هؤلاء الباطنية أنهم من جملة الجيش حتى كانت ليلة غرَّة شعبان سنة (602هـ= 1206م)، وكان شهاب الدين في خيمته يُصَلِّي قيام الليل وحده، حيث دخل عليه الكفار، وضربوه بالسكاكين؛ حتى قتلوه شهيدًا وهو يُصَلِّي، فدخل عليه أصحابه فوجدوه على مُصَلَّاه قتيلاً وهو ساجد، فأمسكوا بهؤلاء الكفرة وقتلوهم جميعًا، وحمله أصحابه إلى غزنة حيث دفنوه بها، وهكذا كانت نهاية هذا البطل العظيم، الذي هو من أعظم أبطال الإسلام، ويا لها من حُسن خاتمة لرجل طالما تعرَّض لمواطن الشهادة، وباشر القتال بنفسه؛ حتى إنه من شدَّة قتاله كان يقتل الفيل بسيفه!
يستشهد بطلنا وهو يُصَلِّي ساجدًا قائمًا لربه –عز وجل، وهو خارج لقتال الكافرين، وهكذا تكون خاتمة الأبطال وما أروعها من خاتمة!
1- انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/45.
2- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/115، 116.
3- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/213.
تامر بدر