طوال العقدين الماضيين، كانت المحطة هي المكان المثالي لإجراء تجارب علمية لا يمكن إجراؤها على الأرض بسبب الجاذبية
محطة الفضاء الدولية مختبر علمي متطور يجوب مدار الأرض على ارتفاع 400 كيلومتر (وكالة الفضاء الأوروبية)
تحلق محطة الفضاء الدولية لأكثر من 20 عاما في فضاء الأرض بسرعة 27 ألف كيلومتر في الساعة على ارتفاع 400 كيلومتر. وبجانب كونها منصة لمراقبة المناخ والأرض من الفضاء، تحتوي على مختبر فضائي متطور يجري أحدث الأبحاث العلمية.
وطوال العقدين الماضيين، كانت المحطة هي المكان المثالي -والوحيد- لإجراء تجارب علمية لا يمكن إجراؤها على الأرض بسبب الجاذبية.
ويقوم رواد الفضاء على محطة الفضاء الدولية بإجراء هذه الاختبارات والتجارب في جاذبية شبه منعدمة ضمن جهود مشتركة بين الوكالات الفضائية المختلفة في الولايات المتحدة وكندا وروسيا واليابان والاتحاد الأوروبي، وغيرها من دول العالم.
رائد الفضاء نيك هيج في وكالة ناسا يجري إحدى التجارب على الخلايا في وحدة علوم الحياة في مختبر كيبو الياباني (ناسا)
أبحاث في خدمة البشرية
لا يقتصر الغرض من هذه التجارب والأبحاث على تأهيل البشرية للحياة في بيئة الفضاء القاسية، بل لها دور كبير في اكتشافات علمية لتحسين حياة البشر على الأرض، إذ تخدم هذه التجارب مجالات تطوير التقنيات الجديدة وتشغيلها، والأنشطة التعليمية وعلوم الأحياء والتكنولوجيا الحيوية وعلوم الأرض والفضاء والأبحاث البشرية، وابتكار الأدوية الجديدة، وعلوم الفيزياء.
وتستخدم نتائج الأبحاث على المحطة في طرح أفكار علمية جديدة والتوصل لنتائج وافتراضات جديدة لاختبارها في المهام الفضائية طويلة المدى وعلى الأرض.
ويتم فحص البيانات العلمية من تجارب المحطة وتنقيحها ونشرها في العديد من الدوريات المعتمدة ووقائع المؤتمرات والأوراق التقنية والكتب وبراءات الاختراع أو حتى الأفلام والبرمجيات التعليمية.
وقد أصدرت إدارة الطيران والفضاء الأميركية (وكالة ناسا) تقريرها السنوي لعام 2020 حول نتائج الأبحاث والاختبارات العلمية التي تقوم بها محطة الفضاء الدولية، ورصد التقرير أكثر من 312 دراسة حول نتائج هذه الأبحاث والتجارب تم نشرها في دوريات علمية، خلال الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2019 حتى أكتوبر/تشرين الأول 2020.
وقد اشترك في إعداد التقرير عدة أطراف، منها وكالة الفضاء الكندية (CSA)، ووكالة الفضاء الأوروبية (ESA) ووكالة استكشاف الفضاء اليابانية (JAXA) وكذلك إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا)، وهيئة الفضاء الروسية (ROSCOSMOS)، فضلا عن وكالة الفضاء الإيطالية (ISA).
رائدة الفضاء كارين نايبرج أثناء إجراء الاختبارات على شتلات نبات "رشاد أذن الفأر" في محطة الفضاء الدولية (ناسا)
علوم الأحياء والتكنولوجيا الحيوية
يوفر مختبر محطة الفضاء الدولية منصة للتجارب الأحيائية التي تستكشف الاستجابة المعقدة للكائنات الحية في ظروف الجاذبية شبه المنعدمة.
والمحطة مزودة بأجهزة ومعدات لدراسة استكشاف النظم الحيوية، ابتداء من الكائنات المجهرية والخصائص الحيوية للخلايا إلى الوظائف المتكاملة للنباتات والحيوانات متعددة الخلايا. وهذه هي بعض التجارب التي تقوم بها المحطة في مجال علوم الأحياء والتكنولوجيا الحيوية:
تأثير انعدام الجاذبية على نمو النباتات
أجرت وكالة الفضاء الأوروبية في مختبر كولومبوس العلمي، أكبر مساهماتها في محطة الفضاء الدولية، تجربة على تأثير الجاذبية والضوء على نمو النباتات التي تولد الأكسجين وقد تكون مصدرا للغذاء لأفراد الطاقم.
ويعتقد العلماء أن الجاذبية هي العامل الأساسي، يليها الضوء في تحديد اتجاه نمو جذور النباتات والجذور. وقد استخدمت التجربة شتلات من نبات "رشاد أذن الفأر" (Arabidopsis thaliana) الذي يعد "فأر التجارب النباتية" بسبب قصر دورة حياته وصغر مكونه الجيني.
وقد تعرضت الشتلات لمستويات متباينة من الجاذبية ابتداء من جاذبية الأرض والقمر والمريخ والجاذبية شبه المنعدمة على المحطة، ثم تم تعريضها للضوء الأبيض لمدة 96 ساعة والضوء الأزرق لمدة 48 ساعة قبل تجميدها لتحليلها على الأرض.حيث تم تحليل الحمض النووي الريبي المستخلص من الشتلات ودراسة تسلسله الجيني لتحديد الجينات التي حدث لها تغيير في تعبيرها الوراثي، من أجل توجيه مسارات الاستخدامات الحالية والمستقبلية لتقنيات زراعة النباتات في الفضاء.
مختبر كولومبوس العلمي من أكبر المساهمات العلمية لوكالة الفضاء الأوروبية في محطة الفضاء الدولية (وكالة الفضاء الأوروبية)
تأثير الجاذبية شبه المنعدمة على البروتينات المسببة للأمراض
درست وكالة استكشاف الفضاء اليابانية تأثير الجاذبية شبه المنعدمة على تشكيل شعيرات أو لُيَيْفات بروتينات الأميلويد (Amyloid) التي تسبب أمراض التدهور العصبي من أجل تطوير علاجات جديدة تثبط تشكيل هذه الشعيرات لعلاج أمراض مثل الباركينسون (الشلل الرعاش) وألزهايمر والوقاية منها.
تعزيز فعالية أدوية علاج بعض الأمراض
قامت وكالة ناسا برعاية بعض شركات الأدوية بدراسة تقييم تأثير أدوية "كبت بروتين ميوستاتين" (Myostatin) المسؤول عن كتلة العضلات لعلاج تلاشي العضلات والعظام وضعفها في الفئران التي تعرضت لفترة طويلة من السفر في الفضاء، ومن ثم علاج أمراض مثل الحثل العضلي وهشاشة العظام والضعف العضلي الهيكلي مع تقدم العمر.
وقد أثبتت الأبحاث أن "كبت بروتين ميوستاتين" وسيلة ناجعة لمنع تدهور العضلات الناجم عن الحياة لفترة طويلة في الفضاء.
رائد الفضاء الروسي أندري بوريسينكو يجري على نفسه أحد فحوصات التنفس (ناسا)
الأبحاث على صحة البشر
تدرس أبحاث محطة الفضاء الدولية أخطار استكشاف الفضاء على صحة الإنسان، مثل العلاقة بين بيئات الجاذبية شبه المنعدمة والإشعاع وغيرهما من جوانب الحياة في الفضاء مثل التغذية والنوم والعلاقات الاجتماعية، بهدف تطوير واختبار الإجراءات التي تقلل من أضرار الحياة في الفضاء على صحة رواد الفضاء.
ونتائج هذه الأبحاث والدراسات جوهرية لتمكين المهام الفضائية البشرية إلى سطح القمر واستكشاف المريخ. ومن هذه الدراسات:
أنيميا رواد الفضاء
كل رواد الفضاء يتعرضون لأنيميا (تدمير كرات الدم الحمراء) بعد عودتهم إلى الأرض. وقد تم رصد ذلك منذ أول مهمة بشرية إلى الفضاء، لكن السبب لم يكن معروفا.
وبدراسة البيانات التي تراكمت على مدى 5 عقود، اكتشفت إحدى الدراسات أن أنيميا الفضاء تحدث بعد النزول عقب اكتمال أول تحول عكسي للسوائل داخل الجسم، بسبب تغيرات ضغط الهواء والجاذبية، وأنه كلما طالت فترة البقاء في الفضاء ازدادت حدة الأنيميا بعد العودة إلى الأرض، وأن التعافي من أنيميا الفضاء يستغرق من شهر إلى 3 أشهر.
ضمور العضلات أثناء سفر الفضاء
يعاني العديد من رواد الفضاء من فقد القدرة على الوقوف في وضعية منتصبة بعد العودة إلى الأرض مباشرة.
وقد قامت دراسة حديثة بدراسة تدفق الدم في الأوعية الدموية القريب من سطح الجلد لدى رواد الفضاء قبل وبعد السفر باستخدام عداد من الليزر يعتمد على الضوء القريب من الأشعة دون الحمراء.
وتوصلت الدراسة إلى ضعف تدفق الدم في الأطراف السفلية بسبب طول البقاء في الفضاء، وهو ما يعني ضرورة إخضاع رواد الفضاء لبرنامج تأهيلي مكثف من التدريبات البدنية والرياضية المنتظمة لتحسين تدفق الدم في القدمين واستعادة كتلة العضلات.
وحدة الرفع الكهرومغناطيسي (ناسا)
علوم الفيزياء
للجاذبية تأثير كبير على فهمنا للفيزياء وإنشاء النماذج الرياضية الأساسية التي ترصد سلوك المادة.
وتمثل المحطة الفضائية المختبر الوحيد الذي يمكّن العلماء من دراسة التأثيرات الفيزيائية طويلة المدى في غياب الجاذبية من دون تعقيدات العمليات المرتبطة بالجاذبية مثل الحمل الحراري والترسيب، وهو ما يتيح الفرصة لظهور خصائص فيزيائية مختلفة، يحاول العلماء دراستها لتطوير العلوم الفيزيائية وكيفية التحكم في سلوك المواد لخدمة الأغراض المختلفة.
الخصائص الفيزيائية للسبائك الصناعية
تناولت دراسات أجرتها وكالة الفضاء الأوروبية قياس الخصائص الفيزيائية الحرارية للسبائك الصناعية في ظل انعدام الجاذبية باستخدام وحدة الرفع الكهرومغناطيسي (Electro-Magnetic Levitator) لتحسين عمليات التصلب.
وتوثق الدراسة على وجه التحديد النتائج التي تم الحصول عليها فيما يتعلق بـ3 سبائك تجارية عالية الحرارة (السبائك الفائقة القائمة على النيكل) التي تُستخدم على نطاق واسع في التوربينات وتطبيقات الطاقة الأخرى.
ومن هذه النتائج بيانات الخصائص الفيزيائية الحرارية عالية الدقة (التوتر السطحي السائل، واللزوجة، وكثافة الكتلة، والسعة الحرارية المحددة) التي لا يمكن الحصول عليها على الأرض، وهي ضرورية لتعزيز كفاءة التصنيع وجودة المنتج.
مختبر الذرة الباردة الذي يقوم بتبريد المواد إلى مستويات فائقة (ناسا)
دراسة حالات البرودة الفائقة
تدرس ناسا من خلال مختبر الذرة الباردة (Cold Atom Lab) حالات البرودة الفائقة للمادة من خلال إنشاء غاز كمي يعرف باسم "مكثف بوز – أينشتاين" في هيكل يشبه الفقاعة للإجابة عن أسئلة متعلقة بميكانيكا الكم. وهذه الفرصة تعزز من دور المحطة الفضائية كمنشأة بحثية في مجال فيزياء الذرات فائقة البرودة.
وقد قامت دراسة أخيرة بفحص بتبريد وحبس الغازات الذرية لتشكيل مكثف "بوز – أينشتاين"، مما أتاح دراسة السلوك الكمي على مستوى ميكروسكوبي لفترات طويلة في جاذبية شبه منعدمة.
وقد درس العلماء الحالة الخامسة للمادة في حالة انعدام الجاذبية للمرة الأولى، الأمر الذي أتاح فهما غير مسبوق لنظرية النسبية لأينشتاين. كما يسهم فهم فقاعات الغاز الكمية في تعزيز الجيل الجديد من أجهزة الاستشعار والمحاكاة الكمية، الأمر الذي يؤدي إلى تطوير الحاسبات الكمية.