شيدت قصيدة الأنوثة وعرفت بعذوبة إلقائها.. الشاعرة لميعة عباس عمارة أيقونة الشعر العراقي الحديث
لميعة عباس عمارة من أولى الشاعرات اللواتي شيدن قصيدة الأنوثة وأضأنها في خريطة الشعر العربي الحديث
لميعة عباس عمارة تعيش في أميركا منذ عقود (مواقع التواصل)
تعرّضت الشاعرة العراقية الكبيرة لميعة عباس عمارة لوعكة صحية قبل أيام، غابت فيها عن الوعي مدة قصيرة بسبب مشاكل في جهازها الهضمي، وما زالت حالتها الصحية حرجة، بحسب ابنها زكي مبارك، وقد سارع محبوها على امتداد العالم العربي بالتغريد على مواقع التواصل داعين لها بالشفاء العاجل لها.
وتعد لميعة عباس عمارة -المولودة في بغداد عام 1929، والمقيمة حاليا جنوب ولاية كاليفورنيا الأميركية- من أبرز الشاعرات العراقيات التي زاملت شعراء الحداثة الشعرية العراقية في دار المعلمين العالية في بغداد، مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وابن خالها عبد الرزاق عبد الواحد منتصف خمسينيات القرن الماضي.
حياتها
ولميعة ليست من اللواتي عانين كثيرا من شظف العيش، بل كان والدها زهرون عمارة صائغ ذهب وفضة معروفا كما هي حال الكثير من المشتغلين بهذه المهنة من الديانة الصابئية. وكانت أول قصيدة نشرتها عام 1944، وهي لم تتجاوز 15 عاما، فامتدحها صديق والدها الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي الذي كان يعد من أهم شعراء المهجر، وتنبأ لها بمستقبل باهر في عالم الشعر.
اتسم شعر لميعة عباس عمارة بجرأة ورومانسية مرهفة، ولغة محكمة التراكيب والمفردات، فضلا عن عذوبة في الإلقاء، مما جعلها تحتل مكانة في خارطة الشعر العربي كإحدى أهم الشخصيات الشعرية النسوية.
هاجرت عمارة من العراق عام 1978 لترتحل بين الدول وتقيم في النهاية في أميركا. وقبل هجرتها، كانت عضوة في هيئة الأدباء العراقيين، وكنت في الهيئة الإدارية مع الشاعر محمد مهدي الجواهري وبلند الحيدري وأسماء معروفة أخرى.
كتب عنها الكثيرون باعتبارها أفضل من جسّد الصوت الأنثوي الجريء من جيل الرواد، أمثال السيّاب والبياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة، ومن أوائل من شيّد قصيدة الأنوثة وأضاءها في خريطة الشعر العربي الحديث، واحتفى بثنائية الجسد والروح، تثور وتبوح بالمسكوت. ومما اشتهرت به:
أحتاج إليك حبيبي الليلة
فالليلة روحي فرس وحشية
أوراقُ البردي
أضلاعي.. فَتِّتْها
أطلِقْ هذي اللغةَ المَنسيّة
جَسَدي لا يحتملُ الوَجْدَ
ولا أنوي أن أصبحَ رابعةَ العدوية
هدية حسين (يمين) في صورة أرشيفية مع لميعة عباس عمارة
غير محظوظة
تقول الروائية والناقدة العراقية هدية حسين -التي كانت تلميذتها في الإعدادية المركزية للبنات بشارع الجمهورية وسط بغداد- إنها تشعر بالحزن لتدهور صحة الشاعرة العراقية الكبيرة.
وكشفت للجزيرة نت عن عمق علاقتها بالشاعرة التي استمرت منذ تلك الفترة حتى الآن، بالقول إنها "كانت مدرّستي التي منحتي القوة ومحبة الأدب وفهم الشعر واحترام الحرف"، وأضافت أنها "ليست شاعرة مثل كثير من الشاعرات، بل فتحت عيوننا على حياة أوسع من صفحات الكتب، وجعلتنا نعشق الشعر ونقرؤه بإحساس مختلف".
وعن ذكرياتها معها، تقول هدية إنها كانت "تكتب القصيدة على السبورة لنقرأها، ثم حين تطلب قراءتها ثانية فإنها تقوم بحذف الشطر الثاني من البيت قبل أن تقع العين عليه، لكي تمرّن ذاكرتنا على الحفظ"، وتؤكد أنها كانت تعتبر نفسها غير محظوظة، وهو ما اكتشفته حين أهدتها ديوانها أغاني عشتار وكتبت عليه "إذا قُدّر لك أن تكوني شاعرة معروفة فليرحمك الله، ولتكوني أحسن حظاً من مدرّستك"، وهو ما جعلها تتساءل باستغراب: "كيف يمكن لهذه المرأة الشاعرة الجميلة المعشوقة الأنيقة أن تكون غير محظوظة؟".
وتشير إلى أن جميع الطالبات كن يتمنين أن "يكن مثل لميعة عباس عمارة، برقتها وشاعريتها وشخصيتها القوية".
أما الناطق الإعلامي لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق الشاعر عمر السراي، فطالب السلطات العراقية بالمبادرة على وجه السرعة للعناية بعمارة، فهي من أبرز رموز البلد المنتمين إلى مرحلة الروّاد، فضلا عن كونها من الشاعرات المتفرّدات بأصالتها وموقفها وموقعها في الخريطة الشعرية العربية".
الصوت النضالي المتميز
أصدرت الشاعرة مجموعة من الدواوين الشعرية، منها: "الزاوية الخالية" (1960)، و"عودة الربيع" (1963)، و"أغاني عشتار" (1969)، و"يسمونه الحب" (1972)، و"لو أنبئني العراف" (1980)، و"البعد الأخير" (1988)، وكانت هذه الدواوين تحمل الريادة أيضا في نصوص قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر، رغم أن الصراع على زعامة مدرسة الشعر الحر كان بين السياب ونازك الملائكة والبياتي.
وتعليقا على ذلك، قالت عمارة في مقابلة صحفية لها إنها تميل أن تكون الريادة للسياب، لأنه كتب الكثير وطور الكثير قبل الشعراء الآخرين.
عاصي يرى أن انحياز لميعة الفني في كتابة شعر التفعيلة قادها إلى الاجتهاد الشعري
وهو الأمر الذي يقول عنه الناقد جاسم عاصي -في حديثه للجزيرة نت- "ليس المهم من بدأ بكتابة شعر التفعيلة، بقدر ما المهم التواصل في الكتابة بهذا المنحى، والأهم هو تفرّد كل منهم باختيار النمط وضرورته"، ويضيف أن انحياز لميعة الفني في الكتابة بهذا النمط قد أكد على ما نعنيه بالضرورة الشعرية والمعرفية التي قادتها إلى الاجتهاد الشعري.
ويعزو الأمر الى إن عائلتها كانت مناضلة، وأنها "واكبت الأجواء السياسية والانتفاضات الجماهيرية في العراق، التي صقلت رؤيتها التي رسخت طبيعة رسالتها الفنية والموضوعية".
ويحلّل الناقد شعرها بالقول إن فيه "نظرات متنوعة للواقع الطبقي، والتاريخ السياسي، والتعمق في أوجاع الشعب كأقرانها، فكان لها صوتها المتميّز، سواء في الشعر الفصيح أو العامّي"، بل يعتقد أن أفكارها وثقافتها التي اكتسبتها من تاريخ الحراك الوطني، وبالأخص الحراك اليساري، "ولّد عندها حسّا طبقيا سبق الحسّ السياسي".
وعن غربتها وتأثيره على طريقة كتاباتها الشعرية، قال عاصي إنه "بسب النفي السياسي مبكرا، زادت من توثيق صلتها بالشعر العالمي والعربي"، ويختتم قائلا إنها" أيقونة الشعر العراقي والعربي على غرار نازك الملائكة وفدوى طوقان".
علاقتها بالسياب
وكانت لميعة في شبابها جميلة جدا، وكانت زميلة السياب في دار المعلمين العالية، ويقال إنها كانت من الفتيات اللواتي أحبهن في شبابه، وهو يذكرها في مواضع عدة في شعره، من أبرزها قصيدته التي عنوانها "أحبيني لأنّ جميع من أحببت قبلك ما أحبوني".
وعن ذلك تقول لميعة في مقابلة صحفية إنها والسياب كانا أصدقاء، تقرأ له ويقرأ لها، ويتناقشان في كل شيء، مشيرة إلى أنها أهدته الكثير من قصائدها في حياته وفي غيابه، وهو كتب إليها الكثير. وأشارت إلى أنها أهدته قصيدة " شهرزاد" أيام كانا معا في الدراسة، وهي تقول:
ستبقى ستبقى شفاهي ظِماءْ
ويبقى بعينيَّ هذا النداء
ولن يبرح الصدرَ هذا الحنين
ولن يُخرس اليأسُ كلَّ الرجاء
وآخر ما أهدته قصيدة اسمتها "لعنة التميّز" في بداية التسعينيات، بعد أكثر من ربع قرن على رحيله، وقالت فيها:
"يوم أحببتك أغمضت عيوني
لم تكن تعرف ديني
فعرفنا وافترقنا دمعتين
عاشقاً مُتَّ ولم تلمس الأربعين"
آخر قصائدها
ومن بين آخر ما كتبته الشاعرة لميعة عباس عمارة في مايو/أيار 2019، يوضح حالة الشعور بالحيرة والتذكر لحالة النضال:
لماذا يحط المساء
حزينا على نظرتي الحائرة
وفي القرب أكثر من معجب
وأني لأكثر من قادرة؟
أنا طائر الحب
كيف اختصرت سمائي
بنظرتك الآسرة؟
أنا بنتُ النضالِ، أرضعني الجوعُ
وأوهى مفاصلي الحرمانُ
خُضتُهُ غَضَّةً، ففي كلّ فَجٍّ
من حياتي مجرى دَمٍ وسنانُ