ابنة العراق المنتمية للمبدأ الإنساني الذي جعلها تخصص ما هو مطلوب للدفاع عن حق المرأة
الراحلة ناصرة السعدون وُصفت بأنها إنسانة مشعّة الحضور ومرهفة المشاعر (مواقع التواصل)
تستذكر الأوساط الثقافية والأدبية في العراق مرور عام على رحيل المواطنة الروائية والمترجمة ناصرة السعدون، والتي رفدت المكتبة العراقية والعربية من نتاجها الفكري الثري.
وبعد حياة حافلة بالعطاء اختتمتها بعيدة عن بلدها، توفيت في 24 أبريل/ نيسان 2020 بالعاصمة الأردنية عمّان عن 74 عاما، بعد صراع مع المرض.
بداياتها
ولدت السعدون في محافظة واسط جنوب العراق في يونيو/حزيران 1946، وهي الابنة البكر لعبد العزيز شبلي السعدون من مشايخ العشيرة المعروف بوطنيته، وهو أحد الضباط الأحرار (الذين شاركو ضمن حركة مايس 1941، مع رشيد عالي الكيلاني ضد الاحتلال الانجليزي)، بحسب شقيقتها يسرى السعدون.
وتضيف يسرى للجزيرة نت أنه في تلك الأجواء، حيث الأصالة والقيم وأخلاقيات الأرياف السائدة آنذاك، ولدت ناصرة أيام الحصاد في بيت القرية المحاط بالبساتين، المطل على نهر الغراف، وتعلمت في مدارس الراهبات، وأتقنت الفرنسية والإنجليزية، وحصلت على الشهادة الجامعية من جامعة بغداد في الاقتصاد السياسي.
وتشير إلى أنها كانت ترافق والدها في حله وترحاله وتحضر مجالسه، وتستمع إلى النقاشات السياسية والحوارات الأدبية كونها الابنة البكر، وقد عايشت الواقع الذي فرضته ظروف ما بعد 14 يوليو/تموز 1958، وانجذبت إلى الأيديولوجيات والفكر الثوري الذي ساد خلال ستينيات القرن المنصرم، وكان لهذه النشأة أثر واضح في كتاباتها، الانتماء للأرض وعشق بغداد ونهر دجلة، وأخلاقيات وأصالة الريف المتمدن.
شغف مبكر
وعن بداياتها مع الأدب فهي قديمة -بحسب شقيقتها- فمنذ أن تعلمت الأبجدية، صارت قارئة نهمة، حين كانت في القسم الداخلي بمدرسة الراهبات في بغداد، وكان النور يطفأ في ساعة محددة وهي تريد أن تقرأ كتابا، فكانت تستعمل المصباح تحت الغطاء وتقرأ من دون علم المشرفة.
وتتحدث يسرى عن شغف شقيقتها الراحلة بالرواية قائلة "كانت تحب راوية الحكايات، حيث تجمع أخواتها وصديقاتها وتروي لهم قصصا من مخيلتها أو رواية قرأتها بأسلوب شيق، فكانت هي شهرزادنا".
وفي مرحلة من حياتها قررت أنه قد آن الأوان لها لتعطي بدل أن تستهلك الأدب، فكانت روايتها الأولى "لو دامت الأفياء) التي تحكي فيها عشقها لبغداد وأزقتها وأجوائها الحنينة.
السعدون في روايتها "لو دامت الأفياء" تحكي عشقها لبغداد وأزقتها وأجوائها
مناصب ونشاطات
وتبوأت السعدون مناصب عدة، وشاركت في بحوث ودراسات في مجالات الاقتصاد ونقل التكنولوجيا والبيئة وغيرها، كما تقول شقيقتها يسرى.
وتذكر أنها شغلت منصب مدير عام الدائرة الاقتصادية في منظمة الصناعات العربية (1979- 1984)، ومدير عام دائرة الكتب والوثائق في وزارة الثقافة والإعلام العراقية (1997- 1998)، ورئيس تحرير مجلة بغداد أوبزرفير الصادرة باللغة الإنجليزية (1998- 2003)، وعضو مؤسس للمنتدى العراقي للمرأة، وعضو مجلس أمناء الجامعة السورية العربية الدولية في 2005، وعضو تحرير في مجلة منظمة الصناعات العربية (1980 – 1984).
وتلفت إلى أن الراحلة كانت الصوت الصارخ المطالب برفع الحصار عن العراق في المؤتمرات الدولية، وشاركت رحلة سفينة السلام المحملة بالغذاء والدواء لكسر الحصار في تسعينيات القرن الماضي، إذ قاومت المارينز الذين اعترضوا السفينة في عرض البحر واعتدوا بالضرب على ركابها العزل، وكانت حصة ناصرة فقدان نصف سمعها بعد أن ضربها جندي أميركي.
المختار: ناصرة كانت هي الوطن بما خزنته في وعيها وضميرها
رواياتها ومؤلفاتها
صدرت للراحلة 6 روايات هي (لو دامت الأفياء، ذاكرة المدارات، الأعزل ابن خلدون يقاتل في أم المعارك، أحلام مهشمة، أحببتك طيفا، دوامة الرحيل) كما ترجمت أكثر من 18 كتابا، بالإضافة إلى كتابتها عشرات المقالات والمؤلفات في مجالات متنوعة.
ويرى صلاح المختار، وهو أحد الأدباء المقربين منها، أن روايتها الأولى "لو دامت الأفياء) هي الأشهر، وكانت بنمط جديد من البوح لعشق المكان المقدس، وكانت بغداد هي المقدس، فالرواية حكت عشقها لبغداد وتذكرت أزقتها، وتنفست عبق أجوائها الدافئة حد الذوبان في بغداد والجلوس في مكان قرب شهرزاد وهي تقص حكاياتها النابضة بالأشخاص والرموز الحية التي تجعلك تدخل مع ناصرة في تفاصيل بغداد ورذاذ شلالاتها الوردية.ويضيف للجزيرة نت أن ناصرة كانت هي الوطن بما خزنته في وعيها وضميرها عنه، فهي وإن بدت غير منغمسة في السياسة وتماهت مع الأدب والفكر واللغات والثقافة العالمية، فقد تعمدت أن تكون حاملة مسحاة تنبش بها كنوز الوعي، وتنير الطريق لتشكل وعيا أعمق وأوسع، عبر ترجماتها ورواياتها وكتبها الأخرى.
وفي مجال الترجمة، يذكر المختار أنها ترجمت العديد من الكتب والروايات المتنوعة الاختصاصات لتأكيد أن مسارات وعيها تغطي مساحات الحياة كلها.
ومن أهم ما ترجمته بحسب المختار، كتاب "احذروا الإعلام" لميشيل كولون، وهو يكشف الدور التخريبي للإعلام الغربي، وتمت ترجمته في ذروة صراع العراق ضد الحصار الشامل في تسعينيات القرن الماضي، و"أزهار الجليل" للصحفي الروسي الإسرائيلي إسرائيل شامير، و"تاريخ اليهود وديانتهم" لإسرائيل شاحاك الكاتب الاسرائيلي المعادي للصهيونية.
ويسترسل بالقول: لم تكتف ناصرة بترجمات سياسية لتنمية الوعي القومي، بل دخلت معترك علم النفس لأجل إلقاء الضوء على خبايا الإنسان وعقده ومحركاته السرية، فترجمت "ذكريات أحلام وتأملات" لكارل غوستاف يونغ، و"العالم المعروف" لإدوارد ب. جونز.
كما دخلت مجال الإستراتيجيات العالمية، فترجمت "لائحة اتهام فرانسوا ميتران" لميشيل اندريه، و"أميركا بين الحق والباطل" لأناتول ليفن، وغيرها عشرات الروايات المترجمة عن الفرنسية، لافتا بالقول "ناصرة قدمت لنا طبقا شاملا، يغذي الروح وينمي الوعي الشمولي للحياة ومقوماتها".
الموسوي تعتقد أن روايات الراحلة ناصرة السعدون لم تكشف عن كل مكنوناتها
مرهفة المشاعر
من جانبها تقول زميلتها الشاعرة والأديبة ساجدة الموسوي "ناصرة السعدون إنسانة مشعّة الحضور، مرهفة المشاعر، حين تقترب منها تشعر كأنها ملكة من ملكات سومر، حيث تتجلّى بالرفعة والوقار وقوة الروح".
وفي حديثها للجزيرة نت، تعرب الموسوي عن اعتقادها بأن روايات الراحلة لم تكشف عن كل مكنوناتها، وكانت تداعب أوتار المشاعر حينا، وحينا تجسّد المفاهيم الاجتماعية السائدة والموروثة، حتى إذا ما مسّت أو ضايقت أبطالها أو بطلاتها انقضت عليها كالصقر في نقد غير مباشر لكنه مؤثر.
وتروي كيف عايشت معها ظهور روايتها الأخيرة "دوّامة الرحيل" والتي فازت بجائزة كتارا القطرية عام 2015، حيث اتصلت بها من قطر لتبشرها، وكانت مجروحة الفؤاد لما أصاب العراق، وهذا الجرح نما وكبر فداوته بدوّامة الرحيل مسقطة التأثير السياسي على الواقع الاجتماعي، وأثرت الرواية بلواعج الغربة وافتقاد الأحبة والوطن، بحسب تعبير الموسوي.
النزال اعتبر أن السعدون عاشت فترة صدمة كالعديد من العراقيين الذين اضطروا لمغادرة بلدهم
مرارة الغربة
ويصف المختار رواية "دوامة الرحيل" بأنها ومضة عشق لبغداد وصرخة ألم من قسوة الغربة، حيث تناولت فيها الهجرة القسرية بعد الغزو الأميركي وتحول بغداد إلى أشبه بمسلخ بشري لا نظير له في تاريخ العراق.
بدوره يقول الشاعر مكي النزال الذي أدار حفل توقيع رواية "دوامة الرحيل": وجدت ناصرة السعدون فرصتها وهي مكافحة للوصول إلى ما وصلت إليه، وبلغت درجات عالية في الوظيفة، وأصبحت بدرجة مدير عام، ثم فجأة -مثل باقي العراقيين- خسرت كل شيء إلا علمها وأدبها.
ويضيف للجزيرة نت أن الراحلة أخذت ما في داخلها من علم وأدب وثقافة وسيرة ذاتية حافلة بالترجمات والأعمال الأدبية والإدارة، وخرجت لتجد نفسها أقل من لاجئة، وعاشت الصدمة في البداية كحال باقي العراقيين الذين اضطروا إلى الرحيل، ثم بعد ذلك بدأت تتأقلم وتحاول إعادة نشاطها.
ويشير النزال إلى أنه قابلها في الأردن ورشحها إلى البيت الثقافي العراقي هناك وصارت زميلة، ولم يظهر منها أي موقف إلا موقفها الأصيل مع العراق إلى آخر أيام عمرها.
مساندة المرأة
وتعد ناصرة السعدون من أبرز المدافعات عن حقوق المرأة فهي ابنة العراق والمنتمية للمبدأ الإنساني الذي جعلها تخصص ما هو مطلوب للدفاع عن المرأة، كما تقول الكاتبة والشاعرة آلاء توفيق.
وتضيف للجزيرة نت أنها في رواية "أحببتك طيفا" تحدثت عن صراع المرأة في الدفاع عن مكتسباتها وحقها في الثقافة والعلم، واستخدمت بعض رواياتها للتأكيد على حقوق المرأة، وقد نسجت خيوطها في هذه الرواية، فكانت نادية بطلة الرواية أشبه ما تكون بفسيفساء ملونة غريبة قريبة هادئة هانئة وربما متفوقة فيما تصفو روحها به.
وتؤكد توفيق أن إنجازات الراحلة أثبتت قدرة المرأة العراقية على النجاح، حينما نجحت في إيصال معاناة المرأة بمصداقية مصحوبة بدقة، فكانت تمسك مبضع الجراح لتشق الجروح، ومن ثمّ تخيطها في محاولة لمنح بطلاتها القوة، وبالتالي منح قوة المواجهة للمرأة العراقية.
وتختم بالقول: ربما تكون قد رحلت عنا جسدا لكن عطاءها لم ينته فهو حي وباق، ووجهها المضيء ما زال يشرق علينا كلما تصفحنا أوراقها التي خطها يراعها.