فى النصف الاول من القرن السادس عشر كانت فرنسا، و بصفة خاصة باريس، مسرحاً لدسائس النبلاء و مؤامرتهم، وكان كل نبيل يحاول الحصول على أكبر قدر من الألقاب.
على أن الكاردينال مازاران أستطاع أن يوقف هذه الأعمال الدنيئة، ونجح فى أن يحكم فرنسا وحده. فقد أستطاع بقوة شخصيته و ذكائه المتوقد أن ينقذ البلاد من خراب مؤكد، كما استطاع بحنكة سياسة عجز البلاط عن إدراكها أن يترك بين يدى لويس الرابع عشر دولة تفرض على الدول الأخرى أحترامها، و تخشاها أوروبا بأسرها.
ولد جوليو مازارينو فى بلدة " بيشينا " الإيطالية، بأقليم " أبروتزو " عام 1602 من اسرة متواضعة إذ ان والده كان موظفاً فى إدارة أملاك أسرة " كولونا ". وقد بدأ دروسه فى روما لدى " اليسوعيين "، و ربطت بينه و بين أحد شبان أسرة كولونا صداقة جعلته يذهب معه إلى أسبانيا للألتحاق بجامعة " القلعة ".
و إلى جانب الدرس كان مازاران يكرس جزءاً كبيراً من وقته للعب و اللهو، و بقى على هذا الحال حتى الخامسة و العشرين من عمره. ثم عاد إلى روما عام 1628 حيث حصل على درجة الدكتوراه فى القانون. ولما كان يحظى بحماية آل كولونا فقد عهدوا إليه بمهام عدة ذات طابع دبلوماسى، و سرعان ما لفت إليه الأنظار كشاب بارع حكيم.
وفى عام 1630 أصبح مندوباً ديبلوماسياً للكرسى الباباوى، فأنتقل مرات عدة إلى باريس حيث تعرف إلى " ريشوليو " العظيم. وكان الدبلوماسى الإيطالى يهوى تلك الدولة الثرية التى كانت مؤهلة لكى تسود العالم المتحضر فى ذلك العصر.
و أصبح مازارينو حبراً فى عام 1632، و أصبح مقبولاً فى صفوف رجال الاكليروس من غير أن يصبح كاهناً. وكان هذا التحول ضرورياً لكى يظل فى الدبلوماسية الباباوية، ثم جاء لقب كاردينال الذى حصل عليه عام 1641 ليساعد على رفع شأنه.
وبقى فى باريس مدة عامين قاصداً رسولياً، و توطدت علاقته بالملك وريشوليو. ولما عاد إلى روما وجه إليه الملك لويس الثالث عشر دعوة خاصة لقبول الجنسية الفرنسية، وكان ذلك عام 1639، فعرف بأسم " مازاران " بدل أسمه الإيطالى " مازارينو ".
فى باريس أصبح مازاران المعاون الأول لريشوليو، ولما توفى هذا الأخير عام 1642 عين مازاران رئيساً للوزراء. و فى العام التالى مات لويس الثالث عشر، فخلفته الملكة " آن " لويس الرابع عشر.
وقد أستقبلت البلاد مازاران للوهلة الأولى، بأعتباره رئيساً للوزراء، أستقبالاً غير مشجع. وراح النبلاء يتناقلون عنه مجموعة من النوادر المهينة، وكان هؤلاء النبلاء يأملون بعد وفاة ريشوليو الذى ظل أعواماً طويلة ينزل بهم العقاب، أن يطلقوا لأنفسهم العنان، و أن يستحوذوا على الأرض و المناسب الكبرى، وأن يغرقوا فى ملذاتهم و يحققوا ما يدور فى رؤوسهم.
لكن النبلاء خاب فألهم، فقد مات حاكم مسيطر ووصل آخر لا يقل عنه حزماً و براعة و قوة يستطيع بها أن يوقفهم عند حدودهم. وقد نجح مزاران فى مبادرته كلها لذكائه وقوة دبلوماسيته.
وكان قد أختار أن يبقى دائماً فى الظل فيحرك خططه و مشاريعه من وراء الكواليس، وحظه كان يكمن فى أن الملكة كانت له مطيعة تنفذ مطالبه كلها. وكان مازاران يعرف كيف يرى الدسائس التى تدبر فيحطمها و يطيح بها فى هدوء و فى ثقة شديدة بالنفس.
كانت صورته نفسها توح بقوة الشخصية، وقد وصف بأنه فارع القامة، له مظهر أخاذ، ووجه وسيم، وشعر كستنائى، و عينان تشع منهما الحيوية، و له قدرة كبيرة على جمال التعبير.
وفى عام 1648 حقق مازاران واحداً من الأعمال الكبيرة التى قام بها، وهو معاهدة " وستفاليا " التى بذل من أجلها من تضحيات كثيرة و جهوداً مضنية. وبفضل هذه المعاهدة أستعادت فرنسا مقاطعة الألزاسن كما عاد السلام إلى شرقى البلاد. و أستطاع ان يكسر شوكة ألمانيا فى عدد من الدويلات، مما قلل من خطورة الأمبراطورية الألمانية.
ذلك السياس البارع لم ينتقم من أحداً، بل غفر لجميع أعدائه، لأنه أنتصر فى الجولات كلها