لا شك أن الإسلام قد شرع العيدين: الفطر والأضحى لإسعاد المسلمين، وأن الشرع الحكيم قد حضَّ المسلمين على التمتع الحلال بهذين العيدين؛ فقد روى الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله".
وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب".
وليس معنى أن أيام العيد أيام فرحة وتمتع أن يكسل المسلم فيها عن التقرب إلى الله عز وجل؛ فهي أيام شكر لله على النعمة أيضًا، وقد جاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه أولاً أنها أيام ذكر لله عز وجل أيضًا.
والطاعات المتاحة في أيام العيد كثيرة، فهناك صلاة العيد، والذِّكر، والأضحية، وصِلَة الأرحام، والترويح عن النفس والأسرة.
كل هذه طاعات، ولكنَّ العبرة بمن يحسن ترتيب الأولويات في الطاعة؛ لذا فقد وضعنا في الأسبوع الماضي استبيانًا حول أفضل الطاعات، وأثقلها في الميزان من بين ثلاث طاعات، هي: صلاة العيد، وصلة الأرحام، والترويح عن النفس؛ وكان غرضنا من هذا الاستبيان قياس فقه الأولويات عند القرَّاء ومتابعي الموقع كشريحة من المجتمع المسلم، وقد حصلت صلة الأرحام على نسبة 78.3% من الأصوات، بينما حصلت صلاة العيد على نسبة 16.1%، وجاء الترويح عن النفس في مؤخرة الاختيارات بنسبة 5.5% من الأصوات.
وهذه النتيجة تعكس مستوى مرتفعًا من فقه الأولويات لدى المشاركين، ولكن هذا المستوى ليس سائدًا في المجتمع؛ إذ يعاني من خلل كبير في هذا الفقه؛ فصلاة العيد -مثلاً- سُنَّة يهتم الكثيرون من المسلمين بالحفاظ عليها، ويقومون مبكِّرًا لأجلها، وقد يسهرون الليل رغبةً في إدراكها، وهذا الحرص أمر محمود؛ فإنها عبادة محدَّدة بوقت لا يتكرَّر طوال العام، كما أنها تسهم في غرس الوحدة، وروح الاجتماع على الخير بين المسلمين.
ولكن -للأسف- فمن هؤلاء الحريصين على صلاة العيد من يهمل أداء الصلوات المفروضة جماعةً في المسجد، أو قد يكون تاركًا للصلاة أصلًا، ومع ذلك يحافظ على هذه السُّنَّة، وهذا خللٌ في الأولويات كبير؛ فقد روى الإمام البخاري رحمه الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي الذي يرويه عن رب العِزة سبحانه وتعالى: "... وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه".
فالله عز وجل رغم أنه يحب العبد الذي يتقرَّب إليه بالنوافل كصلاة العيد، إلا أن أحب ما يتقرَّب به العبد لله عز وجل هو الفرائض.
والترويح عن النفس شيء محمود؛ لأنه يجدِّد العزم على الطاعة، ويقضي على رتابة الحياة، ويبعث المسلم نشيطًا، ولكن هل تستوي تلك الأعمال الصالحة مع صلة الأرحام -مثلًا- التي لاذت برب العزة سبحانه وتعالى، كما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ فقَالَتْ: "هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَذَاكِ لَكِ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].
هذه الفريضة العظيمة التي وعد الله عز وجل من يؤديها ببسط الرزق، وطول العُمر؛ فيما أخبرنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، قائلاً: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"[1]. وعاقب على قطعها كذلك بأشد العقاب، وهو الحرمان من الجنة، فقال: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ"[2]. هذه الفريضة كثير من المسلمين يضيِّعها بينما يحرص على أداء سُنَّة صلاة العيد، والترويح عن نفسه.
إن المسلم لا بد أن يفقه الأولويات، وأن يعرف ماذا من الأعمال ينجيه يوم القيامة، وأي الأعمال يُقَدِّم على الآخر عند تزاحمها، كما يجب أن يعلم أن الفرائض مقدمة على كل النوافل، والله عز وجل مُثيبه على الحفاظ على الفرائض، ولو قصَّر في بعض النوافل، بينما هو في خطرٍ شديد لو ضيَّع فريضةً واحدة، مهما كان قد أتى به من النوافل.
وقد أوردت لنا السيرة النبوية المطهرة نموذجًا على هذا في قصة ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه؛ فقد أخرج الحاكم في مستدركه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله، فقدم علينا فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس مع أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ قال رسول الله: "أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ". فقال: محمد؟ قال: "نَعَمْ". قال: يا محمد، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن عليَّ في نفسك؛ فإني لا أجد في نفسي. قال: "سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ". قال: أنشدك الله، إلهك وإله من قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولًا؟ قال: "الَّلَهُمَّ نَعَمْ". قال: أنشدك الله إلهك، وإله من قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نعبده ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأوثان والأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ فقال: "الَّلَهُمَّ نَعَمْ".
ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وفرائض الإسلام، كلها ينشده عند كل فريضة، كما أنشده في التي كان قبلها حتى إذا فرغ، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف راجعًا إلى بعيره، فقال رسول الله حين ولَّى: "إِنْ يَصْدُقْ ذُو العَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ".
وكان ضمام رجلاً جَلْدًا أشعر ذا غديرتين، ثم أتى بعيره، فأطلق عقاله حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به وهو يسب اللات والعزى، فقالوا: مَهْ يا ضمام، اتقِ البرص، والجذام، والجنون. فقال: ويلكم! إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته رجل ولا امرأة إلا مسلمًا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه"[3].
فهذا ضمام -رضي الله عنه- يشهد شهادة التوحيد أمام النبي، ويشهد أنه سيؤدي الفرائض، ويجتنب المحرمات دون زيادة أو نقص، ومع ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَصْدُقْ ذُو العَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ". وهذا هو الفهم الذي يجب أن نفهمه، حتى لا نكون كالذي يجتهد في قيام الليل، ويقاوم النوم، وتعب الجسد، ويرفض الراحة، ثم إذا به ينام عن صلاة الفجر، ويصلِّيها قضاءً بعد شروق الشمس.
نسأل الله عز وجل أن يُفقِّهنا في دينه، وأن يرزقنا الحرص على أداء الفرائض والنوافل كليهما، وكل عام أنتم بخير، وتقبَّل الله منَّا ومنكم.
[1] رواه البخاري.
[2] رواه البخاري.
[3] الحاكم في المستدرك.
د. راغب السرجاني