الجنيد البغدادي – اسمه ونسبه:–
الجنيد البغدادي هو أبو القاسم الخزَّاز القَوَاريري، الصوفي الزاهد المشهور، أصله من نهاوند، وُلِد في بغداد سنة نَيِّفٍ وعشرين ومائتين، ونشأ فيها.
وإنما قيل له الخزَّاز؛ لأنه كان يعمل الخز، وإنما قيل له القواريري؛ لأن أباه كان يعمل القوارير.
منزلته ومكانته وتحصيله العلمي:-
كان الجنيد البغدادي شيخ وقته وفريد عصره، وكلامه في الحقيقة مشهور مدون، سمع الحديث من الحسن بن عرفة، وتفقه على أبي ثور صاحب الإمام الشافعي، وكان يفتي بحضرته وهو ابن عشرين سنة.
صفحتان من القرآن الكريم تم خطهما في بغداد
صحب خاله السَّرِيَّ السَّقَطِيَّ، والحارث المحاسبي، وغيرهما من المشايخ الأجلاء، وصحبه أبو العباس بن سريج الفقيه الشافعي، وكان أبو العباس إذا تكلم في الأصول والفروع بكلام أعجب الحاضرين فيقول لهم: أتدرون من أين لي هذا؟ هذا من بركة مجالستي أبا القاسم الجُنَيْد.
وهو أول من تكلم في علم التوحيد ببغداد، وعدَّه العلماء شيخ مذهب التصوف؛ لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنة، ولكونه مصوناً من العقائد الذميمة، محميَّ الأساس من شُبه الغلاة، سالماً من كل ما يوجب اعتراض الشرع.
فقد كان الجنيد رحمه الله يقيِّد تصوفه بقوله: “مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة “، كما كان يقول: “علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
مأثورات الجنيد البغدادي :-
- سئل الجُنَيْد عن العارف، فقال: “من نطق عن سرك وأنت ساكت”.
- وكان يقول: “مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقْتَدَى به في مذهبنا وطريقتنا”.
- عن الجُنيد أنَّه قال: “ما أخرَجَ الله إلى الأرض علماً، وجعل للخلق إليه سبيلاً؛ إلَّا وقد جَعَلَ لي فيه حظَّاً”.
- وقال الحريري: “سمعته يقول: ما أخذنا التصوُّف من القالِ والقيل، لكن عن الجوع، وترْكِ الدُّنيا، وقطْع المألوفات”.
يعتبر الجنيد أول من تكلم في علم التوحيد
- وحضر الجُنَيْد موضعاً فيه قوم يتواجدون على سماع يسمعونه وهو مطرق، فقيل له: أبا القاسم، ما نراك تتحرك؟! فقال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} [النمل: 88].
- ورُئِيَ يوماً وفي يده سُبْحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة؟ فقال: طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه.
- سُئِلَ الجُنَيد عن العارف، فقال: ” مَن نَطَقَ عن سِرَّك وأنتَ ساكت”.
- قال عبد الواحد بن علوان عن الجُنيد: “سمتعه يقول: عِلمُنا هذا -يعني التصوُّف- مشبكٌ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم”.
- قال الجنيد:”محبَّةُ اللهِ لهَا تأثير في محبوبه بين، فالمَحَبَّة نفسها من صفات الذَّات، ولمْ يَزَلْ الله تعالى مُحِبَّاً لأوليائه وأصفيائه، فأمَّا تأثيرها فيمَن أثَّرَت فيهِ؛ فإن ذلكَ من صِفات الأفعال”.
- وقال الجنيد البغدادي : “الناسُ في محبة الله خاص وعام، فالعَوَام نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه وكثرة نعمه فلم يتمالكوا أن أرضوه، إلاًّ أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان ؛ فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظم القدر والقدرة والعلم والحكمة والتفرد بالملك ، ولما عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى لم يمتنعوا أن أحبوه إذ استحق عندهم المحبة بذلك لأنه أهل لها ولو زال عنهم جميع النعم”.
علامة كمال الحب دوام ذكره في القلب بالفرح والسرور والشوق إليه والأُنس به
الجنيد البغدادي
نوادره:-
- قال الجنيد البغدادي: قال لي خالي سَرِي السَّقَطِيَّ: تكلم على الناس، وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس، فإني كنت أتهم نفسي في استحقاقي ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة جمعة، فقال لي: تكلم على الناس، فانتبهت، وأتيت باب السَّرِيِّ قبل أن أصبح، فدققت الباب فقال لي: لم تُصَدِّقْنَا حتى قيل لك، فقعدت في غد الناس بالجامع وانتشر في الناس أن الجُنَيد قعد يتكلم على الناس، فوقف عليَّ غلام نصراني في صورة مسلم وقال: أيها الشيخ، ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ”؟ فأطرقت ثم رفعت رأسي وقلت: أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم الغلام.
- وقال الشيخ الجنيد: ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها، قيل له: وما هي؟ قال: مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغني من دار، فأنصت لها فسمعتها تقول:
إِذَا قُلْـتُ أَهْدَى الْهَجْرُ لِي حُلَــلَ الْبِلَى تَقُولِينَ لَوْلَا الْهَجْرُ لَمْ يَطِبِ الْحُبُّ
وَإِنْ قُلْــتُ هَذَا الْقَلْــبُ أَحْرَقَهُ الْجَوَى تَقُولِي بِنِيرَانِ الْجَوَى شَرُفَ الْقَلْبُ
وَإِنْ قُلْــــــــــتُ مَا أَذْنَبْتُ قَالَــــتْ مُجِيبَةً حَيَاتُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ
فصعقت وصحت، فبينما أنا كذلك إذا بصاحب الدار قد خرج فقال: ما هذا يا سيدي؟ فقلت له: مما سمعت، فقال: أشهدك أنها هبة مني لك، فقلت: قد قبلتها وهي حرة لوجه الله تعالى، ثم زوجتها لبعض أصحابنا بالرباط فولدت له ولداً نبيلاً، ونشأ أحسن نشوء، وحج على قدميه ثلاثين حجة.
رسم قديم لمدينة بغداد
منهج الجُنيد في التصوُّف:-
يمثل المنهج الإسلامي المعتدل المتوازن بلا إفراط أو تفريط، وليس كما يعتقد البعض خطأَ أن المقصود ترك الدنيا والانقطاع عنها، أو الجوع لدرجة الهلاك.. ومن أبرز معالم نهج الجنيد البغدادي :
- احترام العقل، فقد سألهُ تلميذه جعفر الخلدي عن موقفه من العقل، فقال الجُنيد: ” يا أبا محمد، من لم يحترز بعقله من عقله لعقله؛ هَلَكَ بعقله”.
- يرى الجنيد ومن وافقهُ وجوب لزم الأمر والنَّهي، وينهى عن المشي مع القَدَر، فقد قالَ الجُنيد -لمن قال: أهل المعرفَة بالله يصلون إلى ترك الحَرَكَاتِ من باب البرِّ والتقرُّب إلى الله-: “إن هذا قولُ قومٍ تكلَّمُوا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسَنُ حالاً من الذي يقول هذا، وإنَّ العَارِفينَ باللهِ أخذوا الأعمالَ عن اللهِ، وإليه رجِعُوا فيها، ولو بقيتُ ألفَ عامٍ لم أنقُص من أعمالِ البِرِّ ذَرَّة، إلَّا أن يُحال بي دونها، وإنه لأوكَد في معرفتي وأقوى في حالي”.
- الربط بين المحبة وطاعة الله، حيث قال الجُنيد: “أن تُحِبَّ ما يحب الله تعالى في عباده، وتكره ما يكره الله في عباده”.
- تصفية القلوب مما خالطها من الشوائب، لتكون خالصة للمولى العزيز، حيث يقول هنا” إن الله تعالى يخلص إلى القلوب من بره، حسب ما خلصت به إليه من ذكره، فانظر ماذا خالط قلبك”.
- كان حاله مطابقاً لعلمه وعلمه مطابقاً لحاله.
آثار الجُنَيْد ومصنفاته:-
- رسائل: منها ما كتبه إلى بعض إخوانه، ومنها ما هو في التوحيد والألوهية، والغناء، ومسائل أخرى.
- دواء الأرواح: رسالة صغيرة تشتمل على جمل من الوعظ من كلامه.
- دواء التفريط.
- القصد إلى الله.
- كتاب الميثاق.
- كتاب الفناء… وغير ذلك من الرسائل والمؤلفات.
يقول الجُنيد: اللهُم مهما عذبتني بشيء فلا تعذِّبني بذل الحِجاب، ويرى ابن طفيل أن كَمَال ذات الإنسان ولذَّتها وسعادتها إنَّما هو بمشاهدة الموجود الواجب الوجود على الدَّوام مشاهدة بالفعل أبداً حتى لا يعرض عنه طرفة عين لكي توافيه منيته وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذَّته دون أن يتخللها ألم، وإلى ذلك بحسب تعبير ابن طُفيل أشار الجُنيد شيخ الصُّوفية وأمامهم عند موته، بقوله لأصحابه: هذا وقت يؤخذ منه: الله أكبر وأحرم للصلاة.
فلسفة ابن طفيل ورسالته، عبد الحليم محمود
من كرامات الجُنيد:-
- قال أبو عمرو الزجاجي : دخلتُ على الجُنيد وكُنتُ أُريدُ أن أخرُجَ إلى الحَج فأعطاني دِرهماً صحيحاً، فشَدَدْته على مئزري، فلم أدخُل منزلاً إلَّا وجدتُ رُفَقاء، ولم أحتج إلى الدِرهم، فلمَّا حَجَجتُ ورجعتُ إلى بغداد؛ دخلتُ على الجُنيد فمدَّ يدهُ وقال: هات، فناولته الدِّرهم، فقال: كيف كان الختم؟، فقُلتُ: كان الختم نافذاً.
- قال خير النسَّاج رضي الله عنه: كُنتُ جالساً في بيتي، فَخَطَر لي أن أبا القاسم الجُنيد في الباب أخرج إليه، فنفيتُ ذلك عن سري، وقُلتُ وسوسة، فوقع خاطرٌ ثانٍ كذلك فنَفَيتُ ذلك عن سرّي، فوَقَع خاطرٌ ثالث كذلك، فقلت: إنَّه خاطرٌ حق وليس بوسوسة، ففتحتُ الباب، فإذا الجُنيد قائم، فسَلَّم عليَّ وقال: يا خير لم لا خرجتَ من الخاطِر الأول؟
- قال الإمام اليافعي في كتابه “روض الرياحين” عن أبي القاسم الجُنيد قال: كان السريّ يقول ليَ : تكلَّم على الناس، وكان في قلبي حِشمة من الكَلام على النَّاس، وكنتُ أتَّهِم نفسي في استحقاق ذلك حياءً، فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلَّم في المنام ليلة جُمعة، فقال لي: تكلَّم على النَّاس، فانتبهت وأتيت باب السري، قبل أن أُصبِح، فدققتُ عليه الباب، فقال: لم تصدِّقنا حتى قيل لكَ ذلك!، فقعد النَّاس في الجامع بالغداة، فانتشرَ في الناس أن الجُنيد قعد يتكلَّم على النَّاس، فوقف عليه غلامٌ نصراني مُتنكِّر، وقال يا أيها الشيخ: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” “اتقوا فِراسة المؤمن، فإنَّه ينظر بنور الله تبارك وتعالى”، فأطرق الجُنيد برأسه ثمَّ رفعه فقال: أسلِم فقد حان وقتُ إسلامك، فأسلم الغُلام وقطع الزنار.
ما قيل فيه:-
- قال أبو القاسم الكعبي المتكلِّم المعتزلي: “ما رأت عيناي مثله، الكتبة يحضرون مجلسه؛ لألفاظه، والشعراء؛ لفصاحته، والمتكلمون؛ لمعانيه”.
- وقال ابن الاثير : “إمام الدنيا في زمانه”.
- وقال الذهبي: “الزاهد القطب، شيخ العصر … له المقامات والكرامات، والكلام النافع في الصدق والمعاملات”.
- وقال ابن كثير “لازم التعبد، وتكلم على طريقة التصوف، وكان ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة، ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش، وكان مع ذلك يعرف سائر فنون العلم”.
- يقول عنه جعفر الخلدي وهو أحد تلامذته: “لم نَرَ في شيوخنا من اجتمع له علم وحال غير الجُنيد، إذا رأيتَ علمه رجحته على حاله، وإذا رأيت حاله؛ رجحته على علمه”.
- قال عنه النبهاني: “شيخُ الصُّوفية على الإطلاق وإمامهم بالاتفاق”.
وعلى الرغم مِن فَضله وعِلمه وزهده؛ غيرَ أن الجنبيد البغدادي لم يسلم مِمن يرمون الناس بالكُفر والزَندقة، فها هو أبو النصر السراج يقول في كتابهِ “اللمع”: ” وكذلك الجُنيد مع كثرة ِعلمه، وتبحُّرِه وفهمه، ومواظبتهِ على الأوراد والعبادات، وفضّلهِ على أهل زمانهِ بالفهَم والعلِم والدّين، حتى قيل له: طاووس العلماء، فكم مرَّةً قد طُلِبَ وأُخِذَ وشهدوا عليه بالكُفر والزندقة”.
وفاة الجُنَيْد:-
توفي ببغداد، يوم السبت، سنة 297هـ، وصلى عليه أكثر من 60 ألف شخص، ودُفِنَ بالشُّوْنِيْزِيَّة عند خاله سَرِي السَّقَطِيِّ، وكان عند موته قد ختم القرآن الكريم ثم ابتدأ في البقرة فقرأ سبعين آية، ثم مات.
والشُونِيْزيَّة، هي مقبرة بها قبورُ جماعةٍ من المشايخ بالجانب الغربي من بغداد.
قال ابو محمد الحريري ، كنْتُ واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته وهو يقرأ القرآن، فقلت: يا أبا القاسم ارفق بنفسك، فقال: يا أبا محمد ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت وهي تطوى صحيفتي.
مرقد الجنيد البغدادي
قال محمد بن إبراهيم: رأيت الجنيد في المنام فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: “طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار”.
وفي آخر مسألة من مسائل التوحيد قالها الجُنيد رحمه الله، وذلك حينما سُئِلَ إلى أين تنتهي عبادة أهل المعرفة باللهِ عزَّ وجل؟، فقال:
“إلى الظَّفَر بنفوسهم، نصب الحق لهم أعمال أدلَّة العمّال، فوقفوا مع ماله دون التعريج على مالهم، فشوَّق إليهم الأنبياء، وانتسب بهم للأولياء، وسبَّحت لهُم الملائكة، فتركوا مالَهم ووقفوا مع ما لله عزَّ وجلّ عليهم، وسائر الناس وقفوا مع مالهم وتركوا ما للهِ عزَّ وجَلَّ عليهم، فرَدَّ الله عزَّ وجَلَ كلَّا إلى قيمته”.
المصادر:–
- الأعلام (2/141).
- البداية والنهاية (14/767).
- جامع كرامات الأولياء للنبهاني، تحقيق إبراهيم عطوة عوض.
- رسائل الجُنيد، تحقيق علي حسن عبد القادر.
- رسائل الجنيد، تحقيق د. جمال رجيب سيدبي.
- طبقات الشافعية – ابن كثير.
- سير أعلام النبلاء (14/66/رقم 34).
- العبر في خبر من غبر (1/435).
- مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (16/359).
- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (13/118/رقم 2053).
- وفيات الأعيان (3/373/رقم 144).
- المحبة بين الإمام سهل بن عبد الله التستري والإمام أبي القاسم الجنيد، موسى الزهراني.