قصة : لؤي السعداوي
بعدَ أن وضعت الحربُ أوزارها، وانتهت بما انتهت إليهِ،
وسَمِعّتُ بأنَّ الأوضاعَ قد أصبحت أفضل بالنسبةِ لنا نحنُ أساتذةَ الجامعاتِ ،
قَررتُ أن أعودَ إلى بلدي، وأُنهي سنواتٍ طوالاً من الغربةِ ،
وبالفعلِ عدتُ وأنا أُمارسُ عملي .
لا أُخفيكم سراً لطالَما أحسستُ بأني أَخطَأتُ بعودتي ،
ذلك أنني كنتُ أطمحُ بالكثيرِ ،
ولكنني عدتُ على أيةِ حالٍ .
وسطَ زحامِ السياراتِ وأصواتِ منبهاتها التي يُطلِقُ السواقُ لها العنانَ
بمناسبةٍ أو بغير مناسبةٍ ،
واختلاطها مع أصواتِ الباعةِ المتجولينَ وتدافعهم نحوها عند الإشاراتِ المروريةِ
ليتسابقوا على بيعِ ما خَفَ وزنهُ وقَلَّ سعرهُ لكي يَكسِبوا قوتَ يومهم
ويسدوا رمقَ عائلاتهم، في بلدٍ من المفترضِ أن يكونَ من أغنى البُلدانِ؛
لأنهُ يطفو علا بحرٍ مِن الذهبِ الأسودِ(
كما يقال).
في هذا المشهدِ الذي لابدَ منهُ صباحَ كلِ يومٍ وأنا متوجهٌ للعملِ،
توقفتُ امتثالاً للإشارةِ المروريةِ، فتسابقَ هؤلاءُ الباعةُ كلٌّ مِنهم يحببني بما لديهِ
ويطلبُ مِني الشراءَ بشتى الأساليبِ المشروعةِ وغيرِ المشروعةِ،
لفتَ نظري شخصٌ يبيعُ الجرائدَ،
شابٌ في مقتبلِ العمرِ يحملُ الوَسامةَ والوقارَ
ويقفُ في مكانهِ مفترشاً الأرضَ، منذُ عدةِ أشهرٍ
وأنا أراهُ كلَ صباحٍ على هذه الحال،
ويوماً بعد يومٍ ، أزدادُ إعجاباً بهِ،
وذاتَ يومٍ، ترجلتُ ومشيتُ نحوهُ،
اقتربتُ مِنه وطلبتُ أن يبيع لي إحدى الصحفِ،
مَدَ يدهُ دونَ أن ينظرَ إلى ما أمامهُ مِن الصحفِ الكثيرةِ
وأعطاني ما طلبتُ ،
أعطيتهُ أكثرَ من ثمنِ الصحيفةِ، لكنه أبى إلا أن يأخذَ ثمنها فقط .
تكررَ شرائي لصحيفتي المفضلةِ من هذا البائعِ،
وتكرر ذلك المشهدُ مشهدهُ وهوَ يُعْطينيها دونَ أن ينظرَ إلى ما عندهُ مِن جرائدَ.
في احدِ الأيامِ، قررتُ أن أسألهُ عن ذلكَ،
فأجابَ بكلِ هدوءٍٍ وبنبرةٍ اختلطت فيها مشاعرُ الحزنِ والفخرِ والألمِ والأملِ:
- أنا كفيفٌ.
تساءلتُ متألماً لأجلهِ:
- ماذا! أنتَ كفيفٌ ؟
قررتُ أن أعطيه مبلغً من المالِ،
لكنهُ رفضَ وعلاماتُ الانزعاجِ الشديدِ بدت عليهِ قائلاً:
- لن أأخذَ أكثرَ من ثمنِ الجريدةِ .
أعدتُ النقودَ واعتذرتُ لهُ
وركبتُ السيارةَ، ولكن أستحوذَ على تفكيري سببُ رفضهِ لمساعدتي،
ربما كانَ المبلغُ قليلً أو لعلي لم أُحسن انتقاءَ الألفاظِ .
في اليومِ التالي، اشتريتُ الصحيفةَ وقبلَ أن أبداء بالكلامِ خاطبني قائلاً:
- لستُ متسولاً ، أنا أعمى ، وأعملُ .
يا لهُ من درسٍ جديدٍ أتعلمهُ من بائعِ الجرائدِ
بعدَ أن اعتقدتُ لعشراتِ السنينِ أني تجاوزتُ مرحلةَ التعلمِ ،
ثم زادَ إعجابي بهذا الشاب عندما علمتُ أنه المعيلُ لوالدينِ عَجوزَينِ .
ذات مرةٍ، كنتُ جالساً في مكتبي أراجعُ رسائلَ الماجستيرِ وأطاريحَ الدكتورا
المقَدمةَ لقسمِ اللغةِ العربيةِ بصفتي خبيراً لغوياً ،
أثارَ عنوانُ إحداها في نفسي تساؤلاتٍ شتى،
(رسالةُ ماجستير بعنوانِ دلالةُ اللونِ في شعرِ بشّار بن بردٍ) ،
ضحكتُ من هذا العنوانِ وقلتُ في نفسي :
- أي لونٍ !!! وبشارُ بن بردٍ شاعرٌ أعمى ؟
فقررتُ أن أقرءَ ما فيها وكنتُ مستهيناً بالموضوعِ جملةً وتفصيلاً في بادئِ الأمر ،
لكن سرعانَ ما انجذبتُ لتلكَ الرسالةِ وأعُجِبتُ بها أيما إعجابٍ لما وجدتُ فيها مِن أشياءٍ كنتُ أجهلها .
قررتُ أن أتعرفَ على الطالبِ الذي كتبَ تلكَ الرسالةَ ،
وهنا كانت المفاجأةُ الكبرى ،
لم يخطر في بالي ولو في الأحلامِ أن يكونَ بائعُ الجرائدِ هو نفسهُ طالبُ الماجستيرِ الذي كتبَ تلك الرسالةَ المتميزةَ ،
وهذه دروسٌ أتعلمها من بائعِ الجرائدِ، لم تسعفني خبرتي في مجالِ عملي بها ،
فاعترفتُ بأن العلمَ ليسَ بالتحصيلِ الدراسي فقط ،
بل هناكَ أمورٌ قد نتعلمها من شابٍ في مقتبلِ العمرِ أو شيخٍ طاعنٍ في السنِ أو حتى من طفلٍ وطفلةٍ ،
والحياةُ أكبرُ جامعةٍ والدروسُ فيها متاحةٌ للجميعِ وغيرُ محددةٍ بزمانٍ أو مكانٍ وعمرٍ وشخصٍ .
كان ذلك منذُ سنينٍ، والآن هوَ أستاذٌ جامعيٌ ودائماً ما تجمعني به لجانُ المناقشةِ لطلبةِ الدراساتِ العليا ...
تمت
بائع الجرائد ،
تحدى نفسه ،
تحدى مجتمعا ينظر الكثير من فئاته للكفيف بأنه شخص عاجز،
تحدى أياما سعت لكسره، فإذا به يكسرها بسلاح الاعاقة