لا بد أن أحد أكثر الأخبار إثارة للانتباه في الفترة الفائتة كان ذلك الإعلان الذي أصدرته هيئة المسح الجيولوجي البريطاني القائل إن القطب الشمالي للأرض يعبث بالبوصلات الموجودة على خط الطول "صفر" المار بمدينة غرينتش الإنجليزية، حيث ستتخذ مؤشراتها اتجاها موازيا تماما لهذا الخط لأول مرة منذ 360 عاما، الحدث الذي سيستمر حتى انتصاف القرن تقريبا ثم بعد ذلك ستبدأ بوصلات غرينتش في الإشارة إلى الشرق قليلا.
في تلك النقطة قد تتساءل عما يحدث، أليس من المفترض أن تستمر البوصلة في الإشارة إلى الشمال وفقط؟ يتوقف ذلك على ما نعرفه عن القطب الشمالي للأرض(1)، فهو في الحقيقة ليس قطبا واحدا كما تعلمت في المدرسة الإعدادية، بل هناك قطب جغرافي (حقيقي) يوجد دائما في النقطة نفسها، تمتد خطوط الطول منه في صورة أنصاف دوائر وهمية تحيط بالكرة الأرضية لتصل إلى القطب الجنوبي، أما القطب الشمالي المغناطيسي للأرض فهو نقطة متحركة وليست ثابتة، في الواقع -وخلال قرنين مضيا- تحرك القطب الشمالي المغناطيسي للأرض نحو ألفي كيلومتر، حيث وصل جنوبا إلى شبه جزيرة بوتيا الكندية وهو الآن في طريقه للارتفاع تجاه القطب الشمالي الجغرافي، وربما باتجاه سيبيريا.
الأقطاب الراقصة
لِمَ يحدث ذلك؟ في حديثه مع "ميدان"، يقول دينيس كينت، أستاذ علوم الأرض والكواكب من جامعة روتجرز: "ينشأ الحقل المغناطيسي للأرض من خلال ما نسميه بتأثير الدينامو"، ويقصد كينت أن لب الأرض الداخلي الصلب يدور بسرعة أقل من الطبقات الأعلى، ما يصنع تأثيرا يشبه الدينامو(2)، لكن الأمر لا يقف عند تلك النقطة، فبحد تعبير "كينت" هناك فارق في درجة حرارة طبقات اللب الخارجي للأرض، وهو ليس صلبا كصديقه السابق لكنه منصهر، يسمح ذلك بانتقال بعض المادة من أسفل اللب للأعلى، بالضبط كما يغلي الماء فترتفع الأجزاء السفلى منه للأعلى ثم تبرد قليلا فتنزل للأسفل.
يقول أستاذ علم الأرض في حديثه مع محرر "ميدان": "يُنتج ذلك مجالا مغناطيسيا ذاتيا ومستداما ذا طابع ثنائي القطب إلى حدٍّ كبير (شمال وجنوب)"، مضيفا: "لكنه مجال ديناميكي للغاية، وبسبب تعقّده فإنه غالبا ما تكون له تقلبات كبيرة في الشدة"، تسمى بعض تلك التقلبات بالتباين القَرني(3)، وهو تغيّر في المجال المغناطيسي للأرض لا يمكن ملاحظته إلا على فترات بعيدة (قرون أو عقود طويلة). ذلك هو ما يتسبّب في حركة الشمال المغناطيسي، لكن الأمر يمتد إلى ما هو أغرب وأبعد من ذلك!
لم تكن هذه الثنائية (شمال وجنوب) هكذا طوال الوقت. تبدأ تلك الحكاية في أوائل القرن العشرين، حينما لاحظ الجيوفيزيائي الفرنسي "برنارد برونهيز" أن بعض الصخور البركانية القديمة التي وجدها في بلدية "سيزينز" الفرنسية كانت مُمغنطة عكس اتجاه المجال المغناطيسي للأرض، بينما من المفترض أن يحدث العكس، فالمواد ذات الخصائص المغناطيسية -مثل الحديد- تتخذ مجالا مغناطيسيا خاصا بها في اتجاه مجال الأرض نفسه، بسبب أن الذرات داخل تلك المواد تتراصّ في هذا الاتجاه أثناء تكوّنها بينما كانت مجرد حمم بركانية سائلة.
لكن برونهيز ورفاقه لم يدركوا الأمر، في تلك الفترة لم تكن لنا بعد أية دراية علمية بما يعنيه المجال المغناطيسي للأرض، لكن بحلول الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت بات واضحا، من دراسة الصخور البركانية بمناطق عدة، أن أقطاب الأرض المغناطيسية -وليست الجغرافية، بمعنى أن الأرض نفسها لم تنقلب- لم تكن هكذا طوال الوقت، بل حدث أن انعكست(4) في الماضي السحيق، وبفحص السجلات الجيولوجية أصبحنا الآن نعرف أن هذا الانقلاب في الأقطاب المغناطيسية حدث نحو مئتي مرة خلال الـ 80 مليون سنة السابقة.
لِمَ تعبث بوصلات الأرض؟
في حديثه مع "ميدان" يقول كينت: "يبدو أن الأمر يحدث بشكل تصادفي، يشبه ذلك أن تقوم بلف عملة ما عدة مرّات متتالية، حتى إن كانت كلها "صورة" فإن ذلك لا يعني أن هناك احتمالا كبيرا أن تكون المرة القادمة "كتابة"، دائما هناك احتمال 50% فقط للمرة القادمة". في الواقع، كان تاريخنا مع هذه الانقلابات المغناطيسية محيرا، في بعض الأحيان تحدث بشكل متتالٍ، كل عدة آلاف من السنوات، وفي بعض الأحيان تحدث بمعدل مرتين إلى ثلاث في القرن، لكن في أحيان أخرى قد تمر ملايين السنوات دون أي انقلاب في أقطاب الأرض المغناطيسية.
كانت آخر مرة نعرفها، انعكست فيها أقطاب الأرض المغناطيسية، قبل(5) نحو 780 ألف سنة، إنها فترة طويلة بحيث يتصور البعض أننا بالفعل على أبواب انقلاب جديد، لكن ذلك التفاوت الكبير في معدلات حدوث تلك العملية يعني أنه قد يبدأ غدا، أو خلال 40 مليون سنة. على الرغم من ذلك، فإن هناك إشارة بحثية تقول إننا ربما بالفعل على مقربة من أحد الانقلابات المغناطيسية، حيث إن شدة المجال المغناطيسي الأرضي تتراجع على مدى مئتي عام مضت بمعدلات يشتبه بعض العلماء أنها قد تتسبّب في انقلاب مغناطيسي خلال ألفي عام.
يقول كينت في حديثه مع "ميدان": "على الرغم من ذلك، فإنه حينما نقوم بقياس الكثافة الكلية للمجال المغناطيسي الأرضي فإننا نجد أنها ما زالت ضمن المتوسط الطبيعي للتغيرات"، موضحا أن ذلك يعني أننا ما زلنا معرضين لكل الاحتمالات الممكنة، بحسب دراسة شارك بها مع باحثين من معهد ماساتشوستس العالي للتكنولوجيا، وصدرت(6) في منشورات الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS) قبل عدة أعوام، حيث جمع الفريق صخورا بركانية من جزر جالاباجوس الشهيرة بالإكوادور، وهي أرخبيل من عدة جزر بركانية موزعة على جانبي خط الاستواء في المحيط الهادئ، المنطقة الأكثر مناسبة لقياسات دقيقة لكثافة المجال المغناطيسي الأرضي، بحد تعبير دينيس.
فوضى مغناطيسية
لا يحدث هذا النوع من التحولات فجأة، بل قد يأخذ من 1000 إلى 10000 آلاف عام، خلالها يضعف المجال المغناطيسي للأرض، ويفتقد للثنائية المعهودة (شمال وجنوب) فتجد أنه انقسم لعدة أقطاب ضعيفة منتشرة على سطح الكرة الأرضية، في تلك الحالة -وإذا كان البشر ما زالوا على الأرض- فإن بوصلاتنا لن تساعدنا للأسف كي نتعرف إلى اتجاه الشمال الجغرافي، بل ستتحرك بعشوائية تبعا للقطب القريب منها، لكن في تلك النقطة فإنه من المثير للانتباه أن نسأل عن وضع البوصلات هنا في الوطن العربي مثلا، ماذا ستفعل إن شهدنا انقلابا مغناطيسيا؟
الإجابة القصيرة: سيشير مؤشر البوصلة للجنوب. فكرة البوصلة(7) بسيطة، وهي أن الأرض مغناطيس ضخم له قطبان مغناطيسيان، وبما أن الأقطاب المتشابهة تتنافر والأقطاب المتعاكسة تتجاذب -قانون المغناطيس الذي تعلمناه في الابتدائية- فإننا نصنع إبرة صغيرة من مادة مغناطيسية ونسمح لها أن تتحرك بحرية، هنا يتجه كلٌّ من طرفي الإبرة للطرف المعاكس للأرض، ثم نعلّم باللون الأحمر على ذلك الذي توجه للقطب الشمالي، لكن مع انعكاس أقطاب ستنعكس البوصلات أيضا، لكننا -في كل الأحوال- لم نعد نستخدم البوصلات كثيرا، تفيدنا تطبيقات كـ "غوغل مابس" في مهام كهذه، لكن المشكلة هي أن "غوغل مابس" أيضا قد يواجه مشكلات مع انعكاس أقطاب الأرض.
في حديثه مع "ميدان"، يقول كينت: "تم توثيق المئات من الانقلابات القطبية في السجل الجيولوجي على مدار الثمانين مليون عام الماضية فقط، ولكن حدوثها لم يتوافق مع التغيرات الكبيرة في سجل الحياة الأحفوري"، يعني ذلك أن الحياة -كما يبدو- لم تتأثر بوضوح بانعكاس الأقطاب وأثناء انخفاض شدة المجال المغناطيسي للأرض، فالانقراضات الكبرى والنقص في أعداد الكائنات الحية، على مدى تاريخنا، لا يبدو أنه ذو علاقة بالخصائص المغناطيسية للكوكب.
لكن ذلك لا يعني أنه لن يحدث أي ضرر، يحمينا(8) المجال المغناطيسي للأرض من عدد هائل من الجسيمات المشحونة المنطلقة من الشمس، لكننا نعرف أن تلك الجسيمات -في حالات الانفجارات الشمسية الشديدة- تؤثر في الأجهزة الإلكترونية ومحطات الطاقة، ما يعني أن انخفاض شدة المجال المغناطيسي للأرض يهدد البشر المعاصرين أكثر من أي وقت مضى، لأن كل حياتنا تقريبا تعتمد على أجهزة إلكترونية، يقول كينت لـ "ميدان": "لذلك، قد تكون هناك عواقب اجتماعية لأحداث كتلك، خاصة أن تعرّض الأقمار الاصطناعية لتلك الجسيمات المشحونة بكثافة قد يُتلفها، ما قد يضر بالاتصالات على الأرض".
المجال المغناطيسي للأرض أشبه ما يكون بدرع ضخم يحميها من جسيمات الشمس المشحونة (مواقع التواصل)
يحاول الباحثون من نطاقات عدة فهم حجم الضرر في حالات كتلك، ليس فقط لأننا بانتظار انقلاب مغناطيسي ما، لأن ذلك قد لا يحدث خلال مليون سنة، ولكن أيضا لأننا لا نفهم بعد كيفية عمل الشمس بدقة، ما يُعرّضنا من حين لآخر لإحدى نفّاثاتها الهائجة والتي تنطلق بسرعات تقترب من سرعة الضوء ناحيتنا، ينقذنا منها غلافنا المغناطيسي، لكنه لا يفعل ذلك في كل مرة. على سبيل المثال(9،10)، تسبّبت عاصفة شمسية شديدة عام 1989 في إيقاف محطات طاقة كندية عن العمل ما قطع الكهرباء عن 6 ملايين شخص، وتسبّبت أخرى عام 2000 في مشكلات كبيرة لبعض أقمار الاتصالات.
يقول كينت في ختام تصريحاته لـ "ميدان": "يتطلب الأمر المزيد من البحث إذن"، مضيفا: "فالمدة الزمنية الطويلة التي تفصلنا عن آخر انقلاب لا تعني أننا قريبون من انقلاب وشيك"، في الواقع فإنه على الرغم من كل ما حققناه من تقدم علمي فإننا لم نتمكّن بعد من تحقيق فهم دقيق لآليات عمل الأرض والشمس، فرغم أن الوسط العلمي يميل إلى قبول نظرية الدينامو، في الحالتين، فإننا لا نستطيع استخدام أيٍّ منهم لتحقيق توقعات مستقبلية دقيقة، يضعنا ذلك قبالة المجهول مباشرة، ما علينا -إلى حين الكشف عن سر تلك اللعبة المغناطيسية- إلا أن ننتظر ونتأمل بوصلاتنا!