الموسيقى حلمٌ لم يطله كثيرون من أمثال نيتشه وأنشتاين.
فإن حُرم الأول من رغبته في أن يصير ملحنًا حتى يلبس ثياب رجال الكنيسة تمامًا كوالده ويعزف على قيثارة الدين، عاش الثاني بين قوانين الفيزياء وأوتار الكمان ليقول يومًا ما:”لو لم أكن فيزيائيًا من المحتمل أن أصبح موسيقيًا. غالبًا ما أفكر بالموسيقى… أحلام اليقظة لدي موسيقى وأنظر إلى حياتي بدلالة الموسيقى.. أجمل أوقاتي هي تلك التي أقضيها بالعزف على الكمان”.
وبين هذا وذاك، بين الحلم واليقظة، ولد الملحن الأمريكي جيمس هورنر ليهدينا فيضًا من الأحاسيس التي تختلف باختلاف الفيلم وفكرته. عبقريته التي تجاوزت حيّز الاستيعاب والفهم جعلتنا نبكي مع روز (كيت وينسلت في فيلم تايتانيك) ونصرخ باسم الحرية مع ويليام والاس (ميل جيبسون) وننتقم لوالده ولحبيبته ولأخيه. موسيقاه التي لم تكن مجرّد نوتات تدون ثم تعزف في انسجام كادت تكون أجمل ما في الأعمال الفنية العظيمة التي شارك فيها.
نبذة عن حياة جيمس هورنر
ولد جيمس هورنر في الرابع عشر من أغسطس سنة 1953 في لوس أنجلس. خلقت أصابعه لتلاعب لوحة البيانو ولتحول الأبيض والأسود اللذان يعتليانها لألوان ومشاعر وألحان خاطبنا بها في “أبولو” و”أفاتار” و”جومانجي”. بدأ مسيرته كعازف بيانو ضمن الكلية الملكية للموسيقى بلندن منذ عامه الخامس. ثم انتقل إلى كاليفورنيا في السبعينات ليحصل على شهادة البكالوريوس ثم الماجستير في الموسيقى هناك ويدرس ما خلق لتدريسه للغير.
مثلت كاليفورنيا ثالث محطة يحط فيها رحاله بعد زيارته لأوروبا التي لعبت دورا محددا في دخوله عالم الموسيقى الكلاسيكية بإعتبارها وطنه الأم. بدأ جيمس هورنر مسيرته مؤلفا الموسيقى التصويرية لفيلم “The lady in red” الأمريكي سنة 1979 وكان هذا الفيلم عبارة عن مفتاح جناح الموسيقى التصويرية في قصر هوليوود. واصل بعدها مسيرته بثبات كبير وحس فني مرهف مع موسيقى فيلم “Star trek 2” التي كانت بمثابة أولى درجات سلّم الموسيقى التصويرية بالنسبة له.
نوتاته هذه التي كلما سمعناها شعرنا بأنه ملحن متربع على عرش الخلق والجمال جعلته واحدًا من أعظم من اقترن اسمهم بفنيّي الموسيقى والتصوير، مما سنح له فرصة التعامل مع كل من جورج لوكاس وأوليفر ستون وجيمس كاميرون طيلة حياته. ولعل ما يميّز أيضا أعمال جيمس هورنر عن غيره من الملحنين تأليفه لنوع موسيقي فريد ولد من رحم الموسيقى السيمفونية الكلاسيكية وتأثر بالموسيقى الشعبية الإيرلندية والموسيقى الإلكترونية .
Titanic, Jumanji, Star trek, Braveheart: أعمال عظيمة تربطها نوتات جيمس هورنر
لم تكن علاقة جيمس هورنر بالفن السابع وليدة الصدفة. فقد ورث حبه له من والده هاري هورنر الذي كان مخرجًا ومنتجًا ومخرجًا فنيًا للأفلام.
ومع جينات الشغف هذه نقل الأب لابنه جينات الفوز بجوائز فنية عالمية كجائزة الأوسكار. إذ تمامًا كما تحصل هورنر الأب على جائزتي أوسكار لأفضل إخراج فني أبيض وأسود عن فيلمي الوريثة The heiress والمحتال The hustler وجائزة أوسكار ثالثة لأفضل تصميم إنتاج عن عمل “هم يقتلون الخيول، أليس كذلك؟ They shoot horses, don’t they “، رُشح هورنر الابن أكثر من سبع مرّات لنيل هذه الجائزة وحصل عليها مرتين: فاز مرة بجائزة الأوسكار لأفضل أغنية أصلية (my heart will go on) ومرة أخرى بجائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية دراماتيكية أصلية سنة 1998 عن فيلم تايتانيك.
رحلته مع جوائز الأوسكار تشهد بطاقته الإبداعية وتفوقه في مجاله. إذ تم ترشيح الموسيقى التصويرية لفيلم “Field of dreams” سنة 1990 تلتها سنة 1996 موسيقى فيلمي “Braveheart” و “Apollo13” ثم “House of sand and fog” و “A beautiful mind” و أخيرا “Avatar” . ولم يتوقف عداد الجوائز عند هذا الحد. فقد ظفر هذا العبقري باثنتي عشر جائزة غرامي بين سنتي 1988 و 2011 وبجائزتي غولدن غلوب سنة 1997، هذا بالإضافة إلى جائزة أفضل موسيقى تصويرية تقدمها جمعية شيكاغو لنقاد السينما والكثير من الجوائز الأخرى نذكر منها فوزه مرتين بأفضل موسيقى عن “How the grinch stole christmas” و “Avatar”. وإن لم ينل واحدة فقط من كل هذه الجوائز، فقد نال جيمس هورنر المكان الأكبر في قلوب المشاهدين أينما كانوا.
جيمس هورنر أو ملحن الضحكات والدموع وعازف الذكريات
بنوتات منسجمة وبأنين مزمار ياباني ذي أصول صينية وأصوات نسائية خافتة سمعناها في قلب شجاع أو Braveheart ، ألبسنا هورنر قناع زورو وأربكنا بأرقام وأشكال هندسية رسمها في أوراقه جون فوربس ناش في فيلم عقل جميل “a beautiful mind”. أبكانا حين حولنا أطفالا في فيلم “The boy in the striped pyjamas” وأسعدنا حين سافر بنا إلى عوالم السحر في فيلم “The pagemaster”. موسيقاه كانت أشبه بغناء الحوريات الذي أنسى أوليس وأصدقاءه طريق العودة إلي الديار؛توجعنا تارة وتخفف عنا وطأة الحزن تارة أخرى.
جيمس هورنر هو حلم اليقظة الذي لازمنا كما تلازمنا الطمأنينة حين نغمض أعيننا ثم ابتعد عنا فجأة يوم 22 يونيو 2015 جرّاء حادث طائرة تاركًا وراءه أعمالًا خالدة وذكريات لا تموت. برصيد يتجاوز مائة وخمسين موسيقى تصويرية وبحفلات أحياها بعد مسيرته السينيمائية، ظفر هورنر بقلوبنا كما سيظفر بلا شك بقلوب كل من ستلوح له من بعيد موسيقاه التي نسمعها ونشعر بها فهي التي كتبها كلما أحس بالمعنى المختبئ بين سطور سيناريوات الأفلام. أليس هو من يقول:”In all the films I work on, there’s always that “What is the heart of the film?,” and I try and nail that.”
نور الهدى بن الحاج - أراجيك