حرب السنوات السبع The Seven Years' War (1756-1763)
هذه واحدة من أعظم الحروب في التاريخ! شملت هذه الحرب عدة معارك كبرى في أوروبا، وأميركا الشمالية، وكذلك الوسطى، والجنوبية، بالإضافة إلى معارك في جنوب آسيا، وجنوبها الشرقي، وأيضًا في غرب إفريقيا. شاركت معظم القوى الكبرى -باستثناء الدولة العثمانية، والصين- في هذه الحرب العالمية. كانت الحرب في الأساس بين بريطانيا وفرنسا للتنازع على الصدارة العالمية؛ ولكن سرعان ما تطور الأمر لحرب عالمية كبرى. تُعتبر هذه الحرب من أشدِّ الحروب تعقيدًا؛ حيث تغيَّرت فيها التحالفات التقليدية بشكل مفاجئ، إلى درجة أن كثيرًا من المؤرخين يعتبرون ما حدث فيها هو «ثورة دبلوماسية» Diplomatic Revolution على الأعراف المعتادة[1].
في هذه الحرب انضمت النمسا لأول مرة في تاريخها إلى غريمتها التقليدية فرنسا في حربها ضد بريطانيا، وانضمت بروسيا الألمانية إلى بريطانيا، وبذلك شاركت أكبر أربع قوى أوروبية في حرب واحدة. سرعان ما جذبت الحرب روسيا القوية، فدخلت في البداية في حلف فرنسا؛ ولكنها غيَّرت اتجاهها في نهايات الحرب، وتحالفت مع بريطانيا! عكست هذه الحرب حالة الاحتقان الشديدة التي كانت تعاني منها أوروبا في هذا القرن كله. لقد حدثت مناوشات يسيرة بين بريطانيا وفرنسا في مستعمراتهم المتجاورة في أميركا الشمالية، وتزامن ذلك مع حدوث صراع يسير كذلك بين بروسيا والنمسا حول حيازة إقليم سيلزيا Silesiaالصغير، ومعظمه في بولندا الآن. كان هذان الحدثان؛ صراع أميركا، وصراع سيلزيا، شرارة أشعلت الحرب بين القطبين الكبيرين بريطانيا وفرنسا، مع تسارع القوى الأخرى للدخول في حلف أحدهما. كان المعظم يتجه إلى حلف فرنسا لتقليص التضخم الإنجليزي المخيف في هذا القرن.
ضمَّ حلف بريطانيا عدة إمارات ألمانية صغيرة، وكذلك البرتغال؛ بينما أسرعت إسبانيا، والسويد، وساكسوني، للدخول في حزب فرنسا[2]. دخلت إمبراطورية المغول الهندية في الحرب كذلك إلى جانب فرنسا على أمل الخلاص من الطموح الإنجليزي في السيطرة على الهند[3].
انتهت المعارك المعقدة بانتصار إنجليزي ساحق، وهزيمة فرنسية مذلة، وهذا أدَّى إلى تغيير موازين القوى الأوروبية بشكل سافر؛ حيث صارت بريطانيا هي القوة الأولى في أوروبا -بل في العالم- بلا منازع[4]، على الرغم من وصولها إلى حافة الإفلاس، وارتفاع معدلات البطالة والفقر[5].
تضاءل النفوذ الفرنسي بشكل كبير، وإن ظلت فرنسا إحدى القوى العظمى على الساحة. عقد المتصارعون معاهدة صلح في باريس في 10 فبراير 1763م وافقت فيها فرنسا على تسليم بريطانيا عدة ممتلكات فرنسية كبرى تشمل كندا، وكل الأراضي شرق نهر المسيسيبي، ومعظم جزر البحر الكاريبي، ومعظم جزر شمال شرق أميركا، والسنغال، وكل المستعمرات الفرنسية في الهند باستثناء خمسة فقط، مع تدمير القلاع في هذه المستعمرات الخمسة المتبقية لفرنسا لتصبح عديمة الجدوى عسكريًّا! -أيضًا- ستقوم إسبانيا -بأمر فرنسا- بتسليم بريطانيا ولاية فلوريدا Florida الأميركية، في مقابل أن تعوِّضها فرنسا بالتنازل لها عن كل الأراضي الأميركية الواقعة غرب المسيسيبي، ومنها ولاية لويزيانا كلها! ستقوم فرنسا كذلك بإفراغ ألمانيا كلها من أي جندي فرنسي، كما ستوافق على اعتبار هانوفر الألمانية ملكًا شخصيًّا لملك بريطانيا. لم تحصل فرنسا في هذه المعاهدة المعقودة في عاصمتها إلا على بعض الحقوق التجارية، والتي تشمل الصيد في نيو فاوند لاند، وخليج سانت لورنس (شرق كندا)، وكذلك تجارة العبيد في السنغال[6].
بالإضافة لهذه الخسارة الفرنسية العظيمة فقد تأثر اقتصادها بشدة نتيجة الإنفاق العسكري الكبير خلال السنوات السبع، ومع ذلك فقد ظل متماسكًا، ولم تقع الدولة في ديون خارجية[7]. بالنسبة لبروسيا فإن بداية الحرب كانت كارثية لها، إلا أن ملكها فردريك الثاني المعروف بالعظيم Frederick II the Great استطاع أن يتغلب على صعوبات كبيرة، وبفكر استراتيجي متقدِّم تمكن من الانتصار منفردًا على روسيا، والنمسا، وبولندا، وخرجت بروسيا من الحرب كإحدى أهم القوى في أوروبا والعالم. صارت بروسيا بعد الحرب مركزًا لتدريب العسكريين في أوروبا على تكتيكات الحروب، وفنون القتال[8].
على الرغم من خسارة النمسا لإقليم سيلزيا، والذي كان شرارة الحرب كلها، إلا أن الأداء النمساوي في الحرب كان قويًّا؛ مما حفظ لها مكانة في أوروبا، أما البرتغال، والسويد، وإسبانيا، فلم يتقدم وضعهم في أوروبا بعد الحرب، وإن كانت الأخيرة قد استردت المستعمرات التي أخذها منها الإنجليز أثناء الحرب، مثل الفليبين، وكوبا[9]. لم تحقق روسيا انتصارات كبرى في هذه الحرب، وإن كانت قد استفادت منها بشكل غير مباشر من أكثر من وجه؛ فقد تخلصت من فرنسا المنكسرة، وبالتالي صار الطريق إلى بولندا مفتوحًا في ظل تقلص مطامع فرنسا فيها، وأيضًا لفتت الحرب أنظار الروس إلى أوجه القصور في نظامهم العسكري، وإدارتهم التقليدية؛ مما سينعش عدة برامج للإصلاح بعد الحرب، بالإضافة إلى تثبيت روسيا كعنصر فاعل في السياسة الأوروبية[10].
قضت هذه الحرب الشاملة على أرواح ما يقرب من مليون إنسان[11]! هذا غير المجروحين، والمعاقين، والأسرى، فضلًا عن الدمار الذي شمل قارات العالم كلها تقريبًا. قادت هذه الحرب إلى تغييرات فكرية كثيرة، ونشأت بعدها عدة اتجاهات دبلوماسية، وسياسية فريدة. بعد هذه الحرب ستدرك معظم القوى الكبرى خطورة المارد الإنجليزي، وبالتالي سيتجهون إلى التحالف مع القطب الفرنسي. هذا سيكون له آثار كبيرة في السياسة العالمية آنذاك، وسيكون إيذانًا كذلك بميلاد الولايات المتحدة الأميركية عام 1776م[12]، بعد ثلاثة عشر عامًا فقط من انتهاء هذه الحرب! -أيضًا- سيقود الانهيار الفرنسي في هذه الحرب إلى عدة مشكلات تنتهي بالثورة الفرنسية الشهيرة عام 1789م[13]، وما يتبعها من زلازل سياسية، وعسكرية، وفكرية، على مستوى أوروبا كلها والعالم. إنها حرب القرن فعلًا![14].
[1] Horn, D. B.: The Diplomatic Revolution, In: Lindsay, J. O.: The New Cambridge Modern History, The Old Regime: 1713-1763, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 1957., vol. 7, pp 440-464.
[2] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, pp. 766-792.
[3] Sen, S.N.: History Modern India, New Age International Publisher, New Delhi, India, Third Editions, 2006., p. 34.
[4] Boyer, Paul S.; Clark, Clifford E.; Kett, Joseph F.; Salisbury, Neal; Sitkoff, Harvard & Woloch, Nancy: The Enduring Vision: A History of the American People, Cengage Learning, 2007.. 1, p. 153.
[5] Robinson, Jerry: Bankruptcy of Our Nation, New Leaf Publishing Group, Arkansas, USA, 2009., pp. 155-156.
[6] Tucker, 2010, vol. 2, p. 792.
[7] Wheeler, J. S.: Great Powers, Their Economic History and a Foundation of Sand, Military Review, US Army Command and General Staff College, Vol. 68, No. 7, 1988., p. 82.
[8] Marston, Daniel: The Seven Years' War, Osprey Publishing Limited, London, UK, 2001., p. 90.
[9] Kozlowski, Darrell J. & Weber, Jennifer L.: Colonialism, Infobase Publishing, New York, USA, 2010., p. 34.
[10] Robson, Eric: The Seven Years War, In: Lindsay, J. O.: The New Cambridge Modern History, The Old Regime: 1713-1763, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 1957., p. 465-486.
[11] Levy, Jack S.: War in the Modern Great Power System: 1495-1975, The University Press of Kentucky, Lexington, Kentucky, USA, 1983., p. 90.
[12] Gipson, Lawrence Henry: The American Revolution as an Aftermath of the Great War for the Empire, 1754–1763, Political Science Quarterly, Academy of Political Science, New York, USA, Vol. 65, No. 1, 1950., pp. 86-104.
[13] Schroeder, Paul W.: The Transformation of European Politics, 1763-1848, Oxford University Press, New York, USA, 1994., p. 67.
[14] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 737- 740.