ثلثا هذه المادة المظلمة ثقوب سوداء بمتوسط كتلة 20 شمسا والثلث الآخر هو بقايا نجوم ميتة مثل الأقزام البيضاء أو النجوم النيوترونية


عش من الثقوب السوداء الصغيرة في مساحة بالكاد أكبر من نظامنا الشمسي (الفرنسية)


بحث اثنان من علماء الفلك مؤخرا عن ثقب أسود كبير، حيث قاما بتصفية البيانات من أقوى المراصد الأرضية والفضائية بحثا عن أي دليل على وجود جسم غير مرئي يساوي وزنه كتلة الشمس بمئات المرات في سحابة بعيدة عن النجوم تعرف باسم "إن جي سي 6397" (NGC 6397)، ولكنهما بدلا من ذلك وجدا عشا من الثقوب السوداء الصغيرة في مساحة بالكاد أكبر من نظامنا الشمسي تلقي بثقلها الكبير في نواة العنقود النجمي.


النواة الكثيفة للعنقود الكروي

قال الكاتب دينيس أوفرباي -في تقريره الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times) الأميركية- إن كلا من العالمين إدواردو فيترال وغاري مامون – وهما من معهد باريس للفيزياء الفلكية- استخدما بيانات من مرصد "هابل" (Hubble) ومرصد "غايا" (Gaia) الفضائيين التابعين لوكالة الفضاء الأوروبية، وقد نشرا نتائج دراستهما في 11 فبراير/شباط الماضي في دورية "أسترونومي آند أستروفيزيكس" (Astronomy & Astrophysics).
قال فيترال -وهو طالب دراسات عليا- في بيان صحفي صادر عن معهد مراصد علوم الفضاء "لقد وجدنا دليلا قويا للغاية على وجود كتلة غير مرئية في النواة الكثيفة للعنقود الكروي، لكننا فوجئنا بأن هذه الكتلة الزائدة لا تشبه النقطة".
وذكر الكاتب أوفرباي أن النتيجة المفاجئة أعطت علماء الفلك نظرة فريدة ومفصلة على الديناميكيات السائدة داخل أحد أكثر الأماكن ازدحاما في الكون القريب.
ويشير عملهما إلى أن مثل هذه العناقيد هي مصدر محتمل للموجات الثقالية التي تم اكتشافها بواسطة "مرصد الليزر المتطور لقياس تداخل الموجات الثقالية" (LIGO) و"مقياس التداخل فيرغو" (Virgo) في الأعوام الأخيرة، وهي عناقيد تنشأ من الثقوب السوداء المتصادمة.
لكن هذا الاكتشاف يثير تساؤلات حول العملية المفترضة والمربكة التي يمكن من خلالها للثقوب السوداء الصغيرة -التي تكون كتلتها أكثر ببضع مرات فقط من كتلة الشمس- أن تندمج وتنمو لتصبح ثقوبا عملاقة تهيمن على مراكز المجرات وتلك النجوم الزائفة البعيدة.



وجدنا دليلا قويا للغاية على وجود كتلة غير مرئية في النواة الكثيفة للعنقود الكروي (الفرنسية)


أحجام المجرات وكتل الثقوب

وأوضح الكاتب أن الثقوب السوداء -حسب نظرية النسبية العامة لألبرت آينشتاين- هي أجسام ذات جاذبية قوية لدرجة أنه لا يمكن حتى للضوء الهروب منها، وكان وجودها موضع شك في السابق، لكن علماء الفلك يتفقون الآن على أن الكون مليء بها، ومعظمها عبارة عن نجوم ميتة انهارت واختفت بعد احتراق كل وقودها النووي الحراري، وكتلها تزيد قليلا عن كتلة الشمس.
ويوجد ثقوب سوداء أخرى بكتل تعادل الملايين أو المليارات من الشموس في مراكز المجرات، ويبدو أن هناك علاقة بين حجم المجرة وكتلة الثقب الأسود في نواتها، لكن لا أحد يعرف لماذا أو كيف تتشكل هذه الثقوب الكبيرة.
وتشير إحدى الفرضيات إلى أن هذه الثقوب السوداء الهائلة نشأت من ثقوب سوداء أصغر وذات حجم نجمي، وفي هذه الحالة يجب أن يكون هناك ثقوب سوداء ذات كتل متوسطة تطفو حولها، ربما في نويات المجرات الصغيرة أو أجزاء المجرات مثل "إن جي سي 6397".وذكر الكاتب أن العنقود "إن جي سي 6397" هو واحد من حوالي 150 غيمة كروية للنجوم القديمة تدور حول مجرة درب التبانة وربما تسبق تكوينها، ويبلغ عمره 13 مليار عام ويحتوي على حوالي 250 ألف نجمة، كلها قديمة وصغيرة وخافتة.

أما النجوم الأكثر إشراقا والأثقل في الكتلة فقد احترقت منذ فترة طويلة وأصبحت ثقوبا سوداء أو غيرها من نواتج الاضمحلال النجمي؛ لذلك فإن العنقود مرشح محتمل لإيواء ثقب أسود متوسط الكتلة. وفي الواقع فإن ثقبا أسودا قوامه حوالي 600 كتلة شمسية قد استقر في مركز "إن جي سي 6397″، حسبما أشارت دراسات سابقة.



هناك علاقة بين حجم المجرة وكتلة الثقب الأسود في نواتها


كتلة مظلمة تساوي 1800 شمس

لتحليل هذه الفكرة أجرى الدكتور مامون وتلميذه عمليات رصد عالية الدقة لحركات النجوم الفردية في العنقود، وذلك بناء على البيانات التي حصلا عليها من مرصدي هابل وغايا الفضائيين. وقد تبين أنه كلما كانت النجوم تتحرك بشكل أسرع زادت قوة الثقالة، وبالتالي لابد من وجود كتلة أكبر لتثبيتها في العنقود.
إجمالا، تم تقييم 1905 نجوم من مرصد غايا و7209 نجوم من مرصد هابل، وقد اتضح أن النجوم كانت بالفعل تحت تأثير جاذبية كتلة غير مرئية، ولكن بدلا من الدوران حول نقطة مظلمة واحدة كانت النجوم تتحرك في كل اتجاه، وهو ما يشير إلى أن أي كتلة مظلمة تؤثر عليها لم تكن مركزة، بل ممتدة، ولكن لم يكن هناك ما يشير إلى وجود ثقب أسود هائل.
قال الدكتور مامون في رسالة بالبريد الإلكتروني "أشار تحليلنا إلى أن مدارات النجوم قريبة من العشوائية في جميع أنحاء الكتلة الكروية بدلا من أن تكون دائرية بشكل منهجي أو مستطيلة للغاية".
وأضاف الكاتب أوفرباي أن حركات تلك النجوم قدمت دليلا على وجود كتلة مظلمة تساوي 1800 شمس منتشرة عبر منطقة يبلغ عرضها حوالي ثلث سنة ضوئية. ويتشارك في هذا الفضاء حوالي 40 ألف نجم عادي ومضيء، ولكنه خفيف الوزن للغاية.
وقال الدكتور مامون إنه وفقا لنماذج التطور النجمي فإن حوالي ثلثي هذه المادة المظلمة هي ثقوب سوداء بمتوسط كتلة 20 شمسا، وبقية المادة المظلمة هي عبارة عن بقايا نجوم ميتة مثل الأقزام البيضاء أو النجوم النيوترونية.



حركات تلك النجوم قدمت دليلا على وجود كتلة مظلمة تساوي 1800 شمس منتشرة عبر منطقة يبلغ عرضها حوالي ثلث سنة ضوئية


المستقبل غير واضح

ويقرّ علماء الفلك بأن ما سيحدث بعد ذلك غير واضح، فقد يتسبب الاندماج العشوائي بين الثقوب السوداء بفقدانها للكتلة في شكل موجات ثقالية، ويمكن أن تؤدي عمليات الاندماج هذه أيضا إلى دفع بعض الثقوب السوداء خارج الكتلة، وقد تؤدي تفاعلات ثقالية مع النجوم الأقل كتلة في العنقود إلى فقدانها السرعة والغرق بمركز الكتلة، وذلك في عملية تسمى "الاحتكاك الديناميكي".
وأوضح الدكتور مامون أنه من الممكن أن "تنقل هذه الثقوب السوداء إلى المركز في غضون بضعة ملايين من السنين، حيث تندمج في شكل ثقب أسود متوسط الكتلة"، لكن هذه النافذة الزمنية لا تُقارن بـ13 مليار عام من وجود العنقود، على حد تعبير الدكتور مامون، لذلك سيكون "حظا جيدا" إذا كان علماء الفلك قد ركزوا على العنقود في اللحظة التي كان يحدث فيها هذا الإجراء الوجيز.
وتشير حقيقة عدم وجود ثقب أسود متوسط الكتلة هناك الآن إلى أنه قد لا يتشكل أبدا، وقال الدكتور مامون إن غرق الثقوب السوداء باتجاه المركز قد يتوقف، لأن الثقوب السوداء تواجه عددا قليلا جدا من النجوم لتبادل الطاقة معها، و"هذا من شأنه أن يمنع تكوين ثقب أسود متوسط الكتلة".
وقال الدكتور فيترال "إن اكتشافنا لهذا التركيز غير المرئي في عنقود كروي متهدم النواة هو بالتأكيد شيء يجعلنا نتساءل عن العديد من الأفكار حول تكوين ثقب أسود متوسط الكتلة!".