شهر رمضان فرصة ثمينة ونادرة، وقد خص الله عز وجل هذا الشهر بالكثير من الخصائص والفضائل، فهو شهر نزول القرآن، وهو شهر التوبة والمغفرة وتكفير الذنوب وفيه العتق من النار، وفيه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر الجود والإحسان وهو شهر الدعاء المستجاب، فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن؟، ومن لم يكن أهلًا للمغفرة في هذا الموسم ففي أي وقت يتأهل لها، ومن خاض البحر اللُّجاج ولم يَطْهُر فماذا يطهره؟!
لذا فقد عرف السلف الصالح قيمة هذا الشهر المبارك فشمروا فيه عن ساعد الجد واجتهدوا في العمل الصالح طمعًا في مرضاة الله ورجاء في تحصيل ثوابه، وهنا نستعرض معًا بعض أحوال السلف في رمضان وكيف كانت همّتهم وعزيمتهم وجدّهم في العبادة لنلحق بذلك الركب.
السلف والقرآن في رمضان
كان حال السلف مع القرآن في رمضان حال المستنفر نفسه لارتقاء المعالي، فهذا الإمام البخاري كان إذا كان في أول ليلة من رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم فيقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال، ويقول عند كل ختمة: دعوة مستجابة[1]، وروي عن الشافعي أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة، قال الربيع: "كان الشافعي يختم كل شهر ثلاثين ختمة، وفي رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة"[2].
السلف والقيام في رمضان
قيام الليل هو دأب الصالحين وتجارة المؤمنين وعمل الفائزين، وقد أدرك سلفنا الصالح هذه المعاني العظام، فنصبوا أقدامهم في محراب الإيمان، يمضون نهارهم بالصيام، ويحيون ليلهم بالقيام، فقد ذكر الذهبي عن أبي محمد اللبان أنه: "أدرك رمضان سنة سبع وعشرين وأربعمائة ببغداد فصلّى بالناس التراويح في جميع الشهر فكان إذا فرغها لا يزال يصلي في المسجد إلى الفجر"[3].
وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى ثم يقول: اللهم إن جهنم لا تدعني أنام فيقوم إلى مصلاه[4]، وعن السائب بن يزيد قال:"كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً - قَالَ - وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمِئِينِ ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عُصِيِّهِمْ فِى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ"[5].
وعن داود بن الحصين عن عبد الرحمن بن هرمز قال: «فَكَانَ الْقُرَّاءُ يَقُومُونَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، فَإِذَا قَامَ بِهَا الْقُرَّاءُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ عَنْهُمْ»[6].
وعن نافع بن عمر بن عبد الله قال: سمعت ابن أبي ملكية يقول: "كُنْتُ أَقُومُ بِالنَّاسِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ وَنَحْوَهَا، وَمَا يَبْلُغُنِي أَنَّ أَحَدًا يَسْتَقِلُّ ذَلِكَ"[7].
السلف والجود في رمضان
قال ابن رجب: قال الشافعي رضي الله عنه: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثير منهم بالصّوم والصلاة عن مكاسبهم[8].
وكان ابن عمر رضي لله عنهما يصوم ولا يفطر إلاّ مع المساكين. وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل[9].
السلف وتنوع القربات
وقد كان للسلف في كل باب من أبواب القربات أوفر الحظ، وكانوا يحفظون صيامهم من الضياع في القيل والقال وكثرة السؤال. لذا تجد كثيرًا منهم قد لازم المسجد ليحفظ صيامه وينقطع عن الناس ويتفرغ للعبادة. عن طلق بن قيس قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: "إِذَا صُمْتَ فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْتَ"، وكان طلق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلاّ لصلاة"[10].
وكانوا حريصين على استثمار أوقاتهم، واغتنام ساعات الليل والنهار، وكان أحدهم أشح على وقته من صاحب المال على ماله، قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي[11]، وقال ابن القيم رحمه الله : إضاعة الوقت أشد من الموت لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها[12].
وخلاصة رمضان السلف: الإمساك عن تعاطي جميع المفطرات الحسية والمعنوية، وفعل ما يرضي الله، يحتسبون نومتهم كما يحتسبون قومتهم، يتنافسون في الطاعات والقربات، ويفرون من مقاربة المعاصي والسيئات، يحفظون صيامهم من جميع المفطرات، يعملون بكتاب الله وسنة رسوله، ويوصي بعضهم بعضًا بألا يكون يوم صوم أحدهم كيوم فطره، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ، عَنِ الْكَذِبِ، وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً".
ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا متأسين بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونسير على ما سار عليه صالحوا سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وأن يوفقنا لقيام رمضان وصيامه إيمانًا واحتسابًا ويتقبله منا، آمين اللهم آمين، وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] ابن الجوزي: صفة الصفوة، تحقيق: أحمد بن علي، دار الحديث، القاهرة، مصر، الطبعة، 1421هـ= 2000م، 2/ 436.
[2] ابن حجر: توالي التأنيس بمعالي ابن إدريس، تحقيق: عبد الله محمد الكندري، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1429 هـ - 2008 م ، ص139.
[3] الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: الدكتور بشار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2003م، 9/ 682.
[4] ابن رجب الحنبلي: التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، تحقيق: بشير محمد عيون، مكتبة المؤيد، الطائف، دار البيان، دمشق
الطبعة الثانية، 1409= 1988م، ص37.
[5] البيهقي في السنن الكبرى: (4393).
[6] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7734).
[7] أخرجه ابن أبي شيبة (7674).
[8] البيهقي: معرفة السنن والآثار، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوفاء، المنصورة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1991م، 6/ 382.
[9] ابن رجب : لطائف المعارف، دار ابن حزم للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1424هـ= 2004م، ص 168.
[10] البيهقي في شعب الإيمان (3375).
[11] عبد العزيز بن محمد السلمان: إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد، ص35.
[12] ابن القيم: الفوائد، ص31.
منقول بتصرف من موقع طريق الإسلام