يعترض الكثير على نقدنا لتردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية في العراق، والتي باتت هي الموضوع الأساس في ما نكتبه من مقالات وما ندوّنه في صفحاتنا الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي وعبر صفحاتنا الشخصية. وقد يكون ذلك الاعتراض منطقياً، إذا نظرنا له مِن زاوية البقاء ضمن دائرة تشخيص الأخطاء.
لكنّي أعتقد بأن النخب الأكاديمية والثقافية في العراق أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية، فبعد ثمانية عشر عاماً على تغيير النظام السياسي في العراق والانتقال من الدكتاتورية إلى تبني الديمقراطية يحتاج من هذه النخب محاكمة تاريخية لتجربة التحوّل، لأنَّ الطبقة السياسية باتت محترفة بتزوير التاريخ عبر مواقفها المتناقضة مع خطابها وتنكّرها إلى ايديولوجيتها التي كانت ولا تزال تحمل الأحزاب السياسية عناوينها، وكذلك تبريراتها التي تحاول التنصّل من مسؤولية الخراب وضياع فرصة بناء دولة المؤسسات الديمقراطية.
ولَعلّي أستحضر هنا كتاب (جمهورية الخوف) للأستاذ كنعان مكّية وكيفية عمله على توثيق نمطية إدارة الدولة الدكتاتورية لمنظومة العنف والإرهاب، إذ كان شاهداً على حقبة ملأى بالألم والمآسي من تاريخ العراق المعاصر. يقول مكيّة في مقدمة كتابه: "إنَّ الخوف، لم يكن أمراً ثانوياً أو عَرَضياً، مثلما في أغلب الدول "العادية"، بل أصبح الخوف جزءاً تكوينياً من مكونات الأمّة العراقية". وبسبب ممارسات العنف من القتل والتهجير "كان يغرس في كلّ من الضحية والجلّاد القيم ذاتها التي يعيش ويحكم من خلالها. فعلى مدار ربع قرن من الزمان، جرت عمليات إرساء الحكم على مبادئ من عدم الثقة، والشك، والتآمرية، والخيانة التي لم تترك بدورها أحداً إلا وأصابته بعدواها."
ويبدو أن تبادل الأدوار بين الضحيّة والجلّاد جعلتنا ندور في حلقات الفوضى، إذ بدلاً من أن يكون لدينا نظام حكم ديمقراطي، ركزت الطبقية السياسية على ترسيخ حكم الأوليغارشيات التي تستمدّ رمزية زعامتها من الانتماءات ما قبل الدولة: الدين، الطائفة، القوميّة، القبيلة. وبالنتيجة ثمانية عشر عاماً تراكمت فيها السياسات الفوضوية والتي أصبحت هي المنظومة التي تحكم العمل السياسي، أي أن محاولة الخروج من دوائرها باتت بمثابة التمرّد على النظام السياسي!
لذلك نجد الكثير من زعماء الطبقة السياسية يجاهرون بالاعتراف بفشل النظام السياسي وعجزه عن القيام بالوظائف التي يرجوها المواطن. ولكن عندما تخرج حركات احتجاج شبابية تطالب بتحقيق الإصلاح، تواجَه بالبطشِ والقوّة، وتتعرَّض لحملة اعتقالات، وتصفية جسدية. ومن دلالات جمهورية الفوضى أن تتبادل الأدوار بين القوات الأمنيّة الرسمية وبين جماعات قوى اللادولة في مواجهة التظاهرات!
مرَّ العراق بكل الأعراض المرضية التي تكون ناتجة عن تغير الأنظمة الشمولية، من حرب أهلية، ومواجهة جماعات متمرّدة ورافضة التغيّر السياسي، وبروز زعماء وأمراء الحروب، وظهور المافيات. لكنْ أن تؤسس الفوضى لأعراف وممارسات سياسية فهذه هي الكارثة الحقيقة التي حلَّت بالبلادِ والعباد! إذ رغم إجراء انتخابات كلّ أربع سنوات، إلا أن هذه الانتخابات لا يمكنها أن تتنج حكومة إلا بعد توافق أمراء الطوائف السياسية، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل لن تتم الموافقة على الحكومة إلا بحضورٍ وتدخلٍ خارجي!
في جمهورية الفوضى، لا تكون الحكومة وكيلةً عن الدولة، وإنما هي وكيلة الأوليغارشيات السياسية التي تبتلع الدولةَ ومؤسساتها، ولذلك تكون مهمة الحكومة الرئيسة إدارة الريع الاقتصادي لِلدولة لِصالح الأحزاب والطبقة السياسية. وما يتبقّى من هذا الريع يتمّ توزيعه رواتبَ لموظفي القطّاع الحكومي، وحتّى هذه الرواتب بات توفيرها من قبل الحكومة يعتبر منجزاً يستوجب الثَّناء والامتنان من قبل المواطنين.
ويمكن تشخيص مستوى الخراب في جمهورية الفوضى، إذ في العراق فقط تتحدث الحكومات عن (موظفين فضائيين)! وهذه التسمية لم تكن سخرية إعلامية، بل هي تشخيص لمشكلة في حسابات أعداد الموظفين في القطّاع الحكومي أعلن عنها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور حيدر العبادي. وإذا كان حديث السيّد العبادي عن منتسبي القوات المسلّحة، فإنَّ وزيرَي التخطيط والمالية في حكومة الكاظمي يؤكّدان عدم وجود إحصائية دقيقة لدى الحكومة بأعداد الموظفين!
ولم تكن الحكومة ولا الطبقة السياسية صادقةً في قولٍ واحد أمام الشَّعب في جهورية الفوضى، إلا في مقولة الاعتراف بوجود الفساد وهيمنته على كلّ مفاصل الدولة. وكان رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي قد حددها في أربعين مَوطناً، لكنّه لم يحرك ساكناً في مواجهة هذه المَواطن! ويتحدّث وزير المالية الحالي علي عبد الأمير علاوي عن ضياع ما بين 100-150 مليار دولار، وهي المبالغ التي جرى الاستيلاء عليها بطريقة غير شرعية طوال الثمان عشر سنة الماضية، ويعترف بأنَّ 10% فقط من واردات المنافذ الحدودية تصل إلى خزينة الدولة، لأنها تخضع لسيطرة المليشيات والجماعات المسلحة خارج نطاق الدولة!
الحكومات والطبقة السياسية قاصدة ومتعمّدة في إدامة الفوضى؛ لأنَّها الوسيلة الوحيدة لبقائها في منظومة السلطة، في بلد يكون معيار الاحترافية السياسية محصوراً في الاستيلاء على موارد الدولة، والعمل على تحقيق مصالح دول الجوار على حساب مصلحة العراق. حيث لا يوجَد تفسير منطقي بين تصنيف العراق عالمياً ضمن الدول العشر الأكثر إنتاجاً للنفط، ولكنّه في نفس الوقت يستورد الغاز من إيران لتغطية احتياجاته لتوريد الطاقة الكهربائية، ويستورد المشتقات النفطية لسدّ حاجة الأسواق المحلية!
زعامات جمهورية الفوضى لا يمكن لها إلا أن تجعلنا نعيش في المجهول ونتوقّع بأنَّ القادمَ أسوأ ولا يحمل بصيص أمل، إذ فشلت الطبقة السياسية في تبنّي إجراءات واضحة وصريحة لِلعدالة الانتقالية باعتبار الركيزة الرئيسة في تجاوز آثار ومخلفات جمهورية الخوف. لكنَّ حكم الاوليغارشيات السياسية نجح في التأسيس لجمهورية الفوضى، وإذا كان كتاب مكّية "جمهورية الخوف" يهتمّ في المقام الأول بقصص الرعب التي تحوَّلت لتصبح قاعدة"، يبدو أننا بحاجة إلى الكتابة عن "جمهورية الفوضى"، تدور حول قصص الخراب والفساد التي خلفتها الطبقة السياسية الحاكمة وأصبحت قاعدةً تحكم النظام السياسي.