ذكَرَ أولو العِلْمِ بفنِّ الكتابَةِ [1] أنّ مَنْ كَتبَ كتاباً فلا يكتُبه إلاّ وهو يَفْتَرِضُ أَنَّ النَّاس كلّهم له أعداء،
وكلّهم عالمٌ بالأمور، وكلّهم متفرِّغ للكاتِبِ، فلا يَرْضَيَنَّ بِكتابِه غُفْلاً، ولا برأيِه عَفْوِيّاً، لأنَّ لابتداءِ الكتابِ
فتنةً وعُجْباً، فإذا سَكَنَت طبيعةُ نَفْسِه وذَهَبَ من العُجْبِ ما بِه، وعادَتِ النفسُ وافرةً، أعادَ النَّظرَ في
كِتابِه، وتَوَقَّفَ عندَ فُصولِه تَوقُّفَ مَن يَكونُ وَزنُ طَمَعِه في السّلامةِ أنقَصَ من وزْنِ خَوفِه مِنَ العَيبِ،
فَلا يَغُرَنَّ قَوماً خلْوَةُ الحَديثِ حَتّى لا يَلِجَ بِهِم في العِيِّ والإكْثارِ، ففي الإكْثارِ عِثارٌ، ولا يَخْلُوَنَّ كاتِبٌ بعِلْمِه
عندَ فَقْدِ خُصومِه.
فَلا عُذْرَ لَك أيُّها الكاتِبُ إنْ كَتَبْتَ كتابَك وقَدْ غابَ عَنْكَ قارئُك الذي هُوَ خَصمُكَ، فَلا تَسْتَريحَنَّ مِنْ شَغَبِ
خَصْمِكَ وتَصفُّحِ ناقِدِكَ. ثُمّ إنَّكَ أيُّها الكاتبُ المُنْشِئُ، عَقْلُكَ شَجِيٌّ مَشْغولٌ، فلا تَنْسَيَنَّ أنَّ عَقْلَ القارئِ
المُتَصفِّحِ خَلِيٌّ فارغٌ مُتفرِّغٌ، رَقيبٌ مُترصِّدٌ. هذا، وقَدْ أعْذرَ مَن أنذرَ ، وأنصَفَ مَن حَذَّرَ، و ما قصَّرَ مَن بَصَّرَ.
فأنتَ أيُّها الكاتبُ المؤلّفُ مُكْرَهٌ على مُراعاةِ قارِئكَ، مُبْتَلىً بمُتابعَتِه، ولا حَقَّ لَكَ في مُجاوَزَتِه، وها أنتَ
–استجابةً له ونزولاً عند مَطالبِ نقْده- كلّما عَزمتَ على إنشاءِ كتابِكَ نشأةً بعد أخرى، وسَبْكِه ثانيةً بَعْدَ أُولى،
تحرصُ على العنايَةِ بتهذيبِه وتَشذيبِه، من غيْرِ أن تَدّعِيَ أنّك وَفّيْتَ المَطْلوبَ حَقوقَه وشَرائطَه.