في وسط قضاء قلعة سكر بمحافظة ذي قار كان هناك رجل مصري يدعى أحمد المصري الصباغ. غريب الوجه واليد واللسان، جاء إلى هنا قبل سنوات طويلة، حاملًا حقيبة صغيرة وحلمًا كبيرًا بأن يجد في الغربة ما عجزت عنه أرضه. كان أحمد دائمًا يقول، وهو يجلس في فندق متهالك بالكاد يصمد أمام الرياح: "الغربة تأكل من الروح، لكنها تُبقي الجسد قائمًا."
كان الفندق الذي يسكنه أحمد قديمًا، تصدعت جدرانه وسقطت أجزاء من سقفه، حتى أنه ذات ليلة كاد أن يقع على رأسه بسبب عاصفة شديدة. لكن أحمد، رغم الخطر، لم يكن يملك خيارًا آخر. كان يجمع كل ما يكسبه ليؤمن قوت يومه، ولم يكن لديه ما يكفي لاستئجار مكان أفضل.
كان رجلاً طيب القلب، يعمل في أي شيء يوفر له لقمة عيشٍ كريمة. عرفه أهل المدينة بابتسامته التي لم تفارقه رغم القسوة التي كان يخفيها في داخله. كان يصحو كل يوم قبل طلوع الشمس، يسير في الطرقات يحمل أدوات عمله على كتفه، ويتنقل بين البيوت والمحال ليكسب رزقه بشرف. لكنه كان يعود إلى غرفته الصغيرة آخر النهار وحيدًا، يضع رأسه على وسادة باتت شاهدة على دموعه المكتومة.
لم يكن أحمد يكثر الحديث عن ماضيه، لكنه ذات ليلة، حين ثقلت عليه الوحدة، حكى لصديق له عن أهله الذين تركهم وراءه في قريته البعيدة. عن والدته التي كان يقبل يدها كل صباح قبل أن يغادر البيت، وعن أبيه الذي علّمه معنى الكرامة. وعن حلمه بأن يعود إليهم يومًا محملاً بالهدايا والفرح. لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن الغربة قد سرقت منه العمر، وأن طريق العودة قد صار بعيدًا.
في الأيام الأخيرة، بدا أحمد منهكًا أكثر من المعتاد. كان يسعل كثيرًا، وصار صوته مبحوحًا كأنه يحمل في داخله ثقل سنوات الغربة بأكملها. نصحه بعض الأصدقاء أن يزور الطبيب، لكنه كان يبتسم بحزن ويقول: "ليس لدي وقت للمرض، الغريب لا يحق له أن يمرض."
وفي صباح يوم الاحد، لم يُرَ أحمد في السوق كالعادة. طرق الجيران بابه فلم يفتح، وحين كسروا القفل وجدوه ممددًا على سريره، يضم بين يديه صورة قديمة لوالديه، وعيناه مغلقتان كأنه استسلم أخيرًا لراحةٍ طال انتظارها.
كانت جنازته بسيطة، حضرها أهل المدينة الذين أحبوه كواحد منهم. بكت النساء، ودعا الرجال له بالرحمة، الغريب الذي صار منّا.
وهكذا انتهت حكاية أحمد، الرجل الذي تلوع بمرارة الغربة، لكن ذكراه بقيت حيّة في قلوب كل من عرفوه. غريب عاش بينهم، لكن روحه كانت دائمًا تبحث عن وطن لم تعد إليه أبدًا.
بقلم الاستاذ الحقوقي مرتضى الركابي