من شُروطِ قولِ الشّعر: امتلاكُ القدرةِ على تَركيبِ الأشتاتِ والجُزْئيّات وإلاّ فَمَن أعوزتْه هذه القُدرةُ جاءَ شعرُه أشتاتا متفرِّقاتٍ وحبّاتٍ منثورةً
تحتاج إلى مَن ينظِمُها ويسبِكها في سلكٍ واحدٍ، وجُزُراً عائمةً لا رابطَ بينَها. ويُصبحُ شعرُ الشّاعرِ مرآة تريه الأشياءَ المتباعدةَ الأمكنةِ قد التقتْ له
حتى رآها في مكانٍ واحدٍ، وما ذلك إلاّ لأنّ: الشّعرَ نَسَقٌ وتركيب، تركيب بين اللغة والإيقاع والصّورِ والألفاظِ الشّعريّة المُنتَقاة.
أضف إلى ذلك أنّ للشّاعرِ لمساتٍ تُحكِمُ البناءَ وتُغلِقُ الطّوقَ على القصيدةِ حتّى لا ينفرِطَ عِقدُها أو بعضُ حبّاتِ عِقْدِها؛ فالشّعرَ نَسَقٌ وتَرْكيبٌ،
والغوصُ في مُؤلِّفٍ واحدٍ من مؤلِّفات الشّعر لا يكشفُ لَنا عن حقيقةِ الشّعر: لقد اهتمّ أهلُ العَروض بالوزن وتفعيلاتِه وأعاريضِه وأضرُبِه، واهتمّ
أهلُ القافيةِ بحدودِها وأنواعِها وعيوبِها، ومع ذلك فإنّ تحققَ الوزنِ وحدَه، واستواءَ القافِية وحدَها لا يصنَع شعراً، واهتمّ أهل النّحو بالعوامل
والمعمولات والتقديم والتأخير والاتّصالِ والانفصالِ... ولم يهمّهم أمرُ انكسارِ قواعدِ الإسناد المعنويّة كإسناد المشيِ إلى البحر في قولِ أبي الطّيّب:
فَلَم أرَ قَبْلي مَنْ مَشى البَحْرُ نَحْوَه /// و لا رجُلاً قامَتْ تُعانِقُه الأسْدُ
نجد أنّ البحرَ "يمشي" و الأسْدَ "تُعانِقُ" الرّجالَ، وفي هذا الانكسارِ مُفاجأةٌ وإدهاشٌ واستعارةٌ بَديعة، وهذه أمورٌ لم تَشْغَل النّحويينَ كثيراً، وتَركوها
لأهل البلاغَة الذين اكتفَوا بالإشارةِ إلى ما أحدَثه التّركيبُ من مشابَهَة، وبذلك تجزّأت أطرافُ النّصّ الشّعريّ بين هؤلاءِ العلماءِ، ولكنّ شاعريّةَ النّصّ
لا تتحقّق إلاّ إذا ائتَلَفت القطعُ المُتجاوِراتُ أو المُتباعداتُ لبناءِ نَسق شّعريّ مُتجانِس ٍ .