لو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير لحرصتُ على الحفاظ على صيامي من أن يُنقصه شيءٌ؛ فرُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.. بل أحتسب كل لحظة من لحظاته في سبيل الله، فأنا أُجاهد نفسي والشيطان والدنيا بهذا الصيام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[1].
والله عز وجل اختصَّ الصيام من بين العبادات بأنه له سبحانه وتعالى، وهو الذي يجزي عنه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[2].
وقد وجَّهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الالتزام بالصيام وأدائه على خير وجه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ؛ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. مَرَّتَيْنِ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله تَعَالَى مِنْ رِيحِ المِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا»[3].
وألمح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض النعيم المقيم المعدّ للصائمين؛ فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ فِي الْـجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ. يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ»[4].
وحذَّرنا صلى الله عليه وسلم أشدَّ التحذير من الاقتراب من المعاصي في هذا الشهر، وأنها تحبط العمل؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»[5].
وقد حرص الصالحون على القيام بالصيام على أفضل وجه من أجل رضوان الله سبحانه وتعالى؛ فها هو الأحنف بن قيس يقال له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك. فقال: إني أعدُّه لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه[6].
ومرَّ الحسن البصري بقومٍ وهم يضحكون فقال: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؛ أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسدُّ عليه باب الضحك[7].
والناس في صيام رمضان مراتب، ليسوا على درجة واحدة؛ فمنهم مَنْ يكتفي بأن يمتنع عن الطعام والشراب والشهوة، وهذه هي غاية صيامه، وهناك درجة أعلى يرتقي إليها البعض بأن يمنعوا جوارحهم -كالسمع والبصر واللسان واليد والرجل- عن ارتكاب المعاصي، ويُوَظِّفوها في الطاعة.
أما الدرجة العليا التي يسمو إليها الندرة من المسلمين، فهم الذين ينشغلون كُلِّيَّة بقلوبهم وعقولهم بطاعة الله عز وجل؛ فلا يهمُّ قلبهم الانشغال بالدنيا، ولا يتطرَّق العقل لمعصية ولا لمتاعٍ يشغله عن طاعة الله تعالى وذِكْرِه.
من كتاب رمضان الأخير للدكتور راغب السرجاني
[1] البخاري: كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان (38) عن أبي هريرة، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (760).
[2] البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم (1805)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام (1151).
[3] البخاري: كتاب الصوم، باب فضل الصوم (1795).
[4] البخاري: كتاب الصوم، باب الريان للصائمين (1797) عن سهل بن سعد، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام (1152).
[5] البخاري: كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1804)، والترمذي (707)، وأبو داود (2362)، والنسائي (3245)، وابن ماجه (1689)، وأحمد (9838).
[6] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/236.
[7] المصدر السابق 1/236.