الذي أفهمُه من التّطوُّر اللّغوي انتقال اللّغة من طَورٍ إلى طورٍ ، فتاريخُ اللّغة أطوار كأطوار خَلق الإنسان وارتقائه من عُمر إلى عمر ...
ولَقَد شَهدَت اللغاتُ وتَشهدُ مرحلةَ الطّفولة ثم الشباب والاكتهال والشيخوخَة فتضعُف وتحلّ محلّها لغةٌ أخرى، أو هي تتحلّلُ في لغةٍ أخرى، ولا
تضعفُ اللّغة إلاّ إذا كانَت خاويَةَ الرّصيد من الثّقافة الكونيّة الكلّيّة التي تَدعمُها، فإن كانَت خاويةً الوفاض من تلك الثقافَة الكلّية ظلّت
حبيسَةَ مفردات تعبّر عن واقع يوميّ خاصّ جداً لا يَمَسّ مستويات الحياة البَشَريّة.
ثم يُفهَم من التطور أيضاً أنّ اللغةَ الحيّةَ التي تظلّ قائمةً في مجتمعها، لها قُدرةٌ ذاتيةٌ على التطوّر الذّاتي الدّاخليّ في دلالات الأشياء،
فالتطور الدلالي وجه بارزٌ من وُجوه تطور اللغات ومظاهره، ولا يكونُ ذلك التّطوّر إلا إذا كانَ للغة وسائلُ التّطوّر وهي المَجاز والاشتقاق
والنحت وغيرها من طرُق التّوليد... وهذه الآليات تتوفّر عليها اللغة العربيّة
أمّا التّغيّر اللّغويّ فليسَ هو التّطوّر: التّغيّر هو الانتقال من حالة إلى أخرى وهو أعمّ من التّطوّر لأن التطورَ الارتقاءُ من طورٍ إلى آخَر كتطور
دلالات الألفاظ ، أما التغير اللغوي فقَد يكون من حالة قوّة إلى حالة ضعف أو العَكس، فكثير من اللغات أو اللهجات الإفريقية التي كانت أو
ما زالَت تتكلم بها الشعوب البدائيّة [شعوب أدغال إفريقيا-شعوب المايا في أمريكا الجنوبية، كثير من اللهجات الهندية...] كثير من هذه
اللهجاتِ اندثَرَت أو ذابَت في لغة قريبةٍ منها أقوى منها أو اختَفَت بفعلِ لغة المُستعمِر الإنجليزي أو الفرنسي الغازية.
أمّا الانفتاح اللغويّ فهو مظهَرٌ من مَظاهر التّطوّر اللغويّ، واللغة المتطوَرة هي اللغةُ ذاتُ القُدرة الذّاتيّة على توليد الدّلالات الجديدَة والمُفرَدات
الجديدة، وذاتُ القُدرة على التطوّر والبَقاء وذاتُ مرونَة تساعدها على الطواعيّة وعدم الانكسار والانقراض. وبسبب الانفتاح استطاعَت كثيرٌ
من اللغات أن تظلّ حيّة: اللغة العربيّة، اللغة الإنجليزيّة، اللغة الفرنسيّة، اللغة الإسبانيّة، اللغة الألمانيّة... واستطاعَت أن تفاعَلَ مع الجديد
الذي يتوالدُ يومياً ولا يفت. والسّرّ في ذلك وجودُ أمرين اثنين: أولهما ثقافَة حافظةٌ حامية تدعم اللغةَ وتسندها وتثبّتثها في وجه عواصف التّطوّر
وسُيوله الدّفّاقَة، والسر الثاني: توفّر اللغة على آليات التّوليد أو «التّكييف» أي القدرّة على ملاءَمَة الدّخيل لبنية اللغة، فلا يُستقبَل الدّخيلُ
على هيئته بل يخضع لقواعدِ المناسَبَة والتلاؤم الصوتي والصرفي والاشتقاقي، حفاظاً على اللغةِ المُستقبِلَة.
وإذا استعملنا مصطلحات التطور والتغير والانفتاح، للحصول على دلالة جديدة للكلمة لم تكن سابقا مع بقاء الدلالة السابقة مستعملة، فهل يُعدُّ
مصطلح التطور أنسب من التغير والانفتاح؟ الجوابُ في زَعْمي أنّ حُصولَ دلالة جديدة للفظِ القَديم لا يُعدُّ مجرّدَ تغيّر طرأ وكَفى، ولكنّه انفتاحٌ سَمَحَ
للغة أن توسّعَ طاقَتَها الدّلاليّةَ وتمدّدَ قدرةَ اللفظ على اتّساعِ ظِلالِه الدّلاليّة، فيحتفظ اللفظ بدلالة تاريخيّة قديمَة يرتكزُ عليْها، ويكتسبُ دلالةً جديدةً
أخرى قريبةً من الأصليّة مع شيء من التجدّد أملتْه ظروف العَصر ومقام المُواكَبَة. أمّا الانفتاح ففيه ما يدلّ على الاحتفاظ بدلالة قديمَة للفظ وبطروء
دلالة جديدة، أمّا التطوّر فيَميلُ إلى أن يكونَ الأمرُ انقطاعاً وانتقالاً من دلالة قديمة محدودةٍ إلى دلالة جديدةٍ واسعةٍ وقد تموتُ القَديمة وتندثر وتُتَناسى
بكثرة استعمال اللفظ في الدّلالَة الجديدَة، بل قد يُهجَرُ اللفظُ نفسُه في بعض اللغات ويُستعمَلُ لفظٌ دخيلٌ بحَمولته الصّوتيّة والدّلاليّة ...