التفسير: علم باللّغة, وعلم بالأثر, وتدبُّر.
والإحاطة باللّغة متعذرة, ومعرفة الآثار المنقولة كلها عَسِرٌ, والتدَبّر لا حدود له, وهو بحسب ما يفتح الله به على المتدَبِّر.
وهذه المقدِّمة تفضي إلى نتيجة واحدة, هي: لا يوجد في الأمّة مفسِّر مهما بلغت ملكاتُه أن يجمع معاني القرآن وما تحتمله ألفاظه و جمله من وجوه، وأولى التفاسير بالصّواب تفاسيرُ السَّلف من حيث الجملة.. وما من مفسِّرٍ متقدم أو متأخر إلا ووقف عند آية أو كلمة حَيرانَ, حتى يعود إلى تفسير من سبقه, أو إلى كلام العرب, أو النظر الطويل فيما أشكل عليه؛ لأن القرآن حمّال أوجه, ولأنه لا تنقضي عجائبه, ولأن معانيه تتجدد, وفيه من المعاني ما تظهره العصور المتلاحقة, وقد ذكرتُ لهذا شواهد في فتاوى سابقة.. والشرط الأول الذي يجب أن يكون في المفسّر: هو العلم باللّغة العربية, معانيَ, ودلالاتٍ، ونحواً وبياناً، وتحصيل هذا يكون بمعرفة قوانين النحو أوّلا, ثم التمرّس على كلام العرب شعره ونثره, والناس يتفاوتون في ذلك بحسب تحصيلهم وتفاوت ملكاتهم, والقراءات جزء من تلك المعرفة وذلك التحصيل.
وهناك من القراءات التّفسيرية مالا يستقيم الحكم الشرعي إلّا بها, كقراءة {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [من أم] .. } وهي قراءة شاذّة, من القراءات التفسيريّة, ولولا هذه القراءة لكان للأخ الشقيق أو الأخ من الأب السدس أيضا, ومثل هذا يكثر في القراءات التفسيرية التي تعدّ من الشواذ, لأنها خارجة عن رسم المصحف العثماني, والقراء يهملون هذه القراءات المعينة على التفسير, ويظنون أنّ حفظ القراءات السَّبع أو العشر كافٍ في ذلك, مع أن القراءات المتواترة التي لها أثر في المعاني والأحكام لا تبلغ عدد القراءات الشاذة, والفروق التي بينها هي في جمهورها من الفروق الدقيقة.
والحاصل أنّ تحصيل القراءات ليس شرطا في المفسِّر, ولكن الاطّلاع على ما نقل من القراءات في الآية عند تحقيق معنى من المعاني أو حكم من الأحكام في بحث أو فتوى أمر لابدَّ منه, ولو جعلناه شرطا مطلقا, وجمعناه إلى الشروط الأخرى التي يذكرها بعضهم في المفسر, لحجَّرْنا واسعا, وهذا منافر لما جاء في القرآن من الأمر بالتدبّر والحث عليه, ويكون ذلك تكليفا بالمحال, ولا نرى التكليف بالمحال في كل الأحوال.