من تكاملت لديهم الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية
طَوال مُزْدَهَر الحضارة العربية الإسلامية تكاملت في وعي بُناتها الفنونُ والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، فلاسفةً كانوا أو أطباءَ أو كيميائيين أو مهندسين أو جغرافيين أو مؤرخين أو أدباءَ أو لغويين...- وعرفوا حقيقة الأمر واجتهدوا في سبيلها ودَلُّوا عليها.
ثم لما خَبَتْ جذوة الحضارة العربية الإسلامية انفرد المستمسكون بها الحريصون عليها، بمعرفة تلك الحقيقة والاجتهاد في سبيلها والدلالة عليها -مهما استثقلهم الناس، واستغربوهم، وأعرضوا عنهم!- وصارت هذه المعالم شِعارَهم الذي به يتميزون ويُعرفون.
الأستاذ محمود محمد شاكر
فمِمَّن تكاملت لديهم الفنونُ والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، في هذا العصر الذي عَصَرَنِي ثماني وأربعين مرة- الأستاذ محمود محمد شاكر (1909-1997) -رحمه الله!- الكاتب الأديب الفذ، الذي لم يدخل إلى جامعة القاهرة إلا بعد أن ائتلفت في وعيه أصول اللغة العربية والرياضيات العليا، ووقف منها على مبادئ أَوَّليَّة قوية استند إليها في التأمل والتفكير واعتمد عليها. ولولا الدكتور طه حسين الذي صرفه إلى دراسة اللغة العربية بكلية الآداب لربما تخصص لدراسة الرياضيات بكلية العلوم.
في مفتتح دراسته الجامعية فوجئ شاكر بأستاذه الدكتور طه حسين يُشكِّك طلاب السنة الدراسية الأولى من قسم اللغة العربية بكلية الآداب من جامعة القاهرة، في مصادر اللغة العربية، وميز في كلامه أفكار مرجليوث المستشرق الإنجليزي قد ادعاها لنفسه؛ فسأله فيها، وحاوره، وناقشه، وأعاد، وزاد، وكرر، وأنكر؛ فلما وجده استكبر أن يعود إلى الحق أعرض عنه وعن القسم والكلية والجامعة ومصر كلها!
نعم؛ هاجر إلى الحجاز، ثم عاد بعد عامين، فاعتزل الناس، وانقطع سنين طويلة للفنون والعلوم والمهارات اللغوية العربية والعربية غير اللغوية، يُسائِلُها عن حقيقة الحضارة العربية الإسلامية، حتى استقرت لديه أصولها، وميَّزَ منها ما لا يُميِّزه غيره، واهتدى إلى ما لم يهتد إليه، حتى أبدع بعض الأعمال الفنية اللغوية العميقة الباهرة (القوسَ العذراء، واعصفي يا رياح)، وانتهج بعض المناهج العلمية الخاصة (التَّذَوُّقَ)، ووضع بعض النظريات الأصيلة (التَّشْعِيثَ) (مصلوح، 1991، 162)، وكتب في ذلك، وحَقَّقَ، واستقبل ببيته طلاب حقيقة الحضارة العربية الإسلامية الغائبة عن الجامعات البحثية والتدريسية -وكنتُ أحدهم- وبذل لهم من نفسه وماله، حتى استوى بيتُه واستمر حتى وفاته -رحمه الله!- جامعةً أخرى صحيحةً واعيةً!
الدكتور جمال محمود حمدان
وممن تكاملت لديهم الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، في عصرنا هذا كذلك- الدكتور جمال محمود حمدان (1928-1993) -رحمه الله!- الجغرافي الأديب الفذ، الذي كان هو وأساتذة قسم الجغرافيا بكلية الآداب من جامعة القاهرة، كما حدثني زميله الدكتور يوسف فايد الذي صار فيما بعد رئيس قسم البحوث والدراسات الجغرافية بمعهد البحوث والدراسات العربية من جامعة الدول العربية -وقد عملتُ فيه مدةً بقسم البحوث والدراسات التراثية- يصطفون أمام الخريطة يتأملون معالمها، ويتفكرون فيها، ثم يحللونها، ويركبونها بما لا يخفى على أحد منهم، إلا الدكتور جمال حمدان؛ فقد كان يبهرهم من نتائج نظره العميق المؤيَّد الثاقب، بما لم يخطر لأحد منهم ببال!
والدكتور جمال حمدان المعروف بحصيلته اللغوية العربية الصحيحة الواعية، وحصيلته الجغرافية الأصيلة الطامحة، "لم تكن الجغرافيا لديه إلا رؤية إستراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشري وحضاري، ورؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها. وهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما -هكذا، والأدق "بل"- سعى إلى وضعها في سياقٍ أعم وأشمل وذو بُعْدٍ -هكذا، والصواب "وذي بُعْدٍ"- مستقبلي أيضا؛ ولذا فإن جمال حمدان عانَى مثلَ أنداده من كبار المفكرين الإستراتيجيين في العالم، من عدم قدرة المجتمع المحيط بهم على استيعاب ما ينتجونه؛ إذ غالبا ما يُكوِّن رؤية سابقة لعصرها بسنوات، وهنا يصبح عنصر الزمن هو الفيصل للحكم على مدى عبقرية هؤلاء الإستراتيجيون -هكذا، والصواب "الإستراتيجيين""(ويكيبيدي ا: الموسوعة الحرة).
فلذلك استقال من الجامعة أستاذا مساعدا، واعتزل ببيته منقطعا لأعماله التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. ولمّا لم يرتح إلى فتح بيته لطلاب حقيقة الحضارة العربية الإسلامية كما فعل شاكر، اضطُرُّوا إلى تتبع أعماله والامتناع بها من أوهام الجامعات البحثية والتدريسية كذلك، ولاسيما كتابه الكبير "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، ذو ثلاثة الأجزاء (شخصية مصر الطبيعية، وشخصية مصر البشرية، وشخصية مصر التكاملية)، الذي تجلَّى فيه وعيُه التكامليُّ الفَذُّ (ويكيبيديا: الموسوعة الحرة).
هجران الجامعات
كلا الأستاذين الجليلين أفضى به تكامل الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية في وعيه، إلى هجران جامعته التي كانت مُنْتَمَى حُلُمِه ومُنْتَهَى أَمَلِه، والاستهانةِ بالعمل الجامعي البحثي والتدريسي، والاشتغالِ بما يراه أصدق وأمكن وأكرم وأنفع؛ وليس أشدَّ من حالهما تنبيها على ضرورة التوقف في أحوال هذه الجامعات المهجورة وأعمالها المستهان بها:
1 فإما أن نغيرها تغييرا كاملا، وموطن المخافة في هذا الرأي أن هذه الجامعات المهجورة قد اسْتَشْرَتْ فيها أَدْواءُ الفَصْل بين الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، حتى اسْتَعْصَتْ على التغيير!
2 وإما أن نستبدل بها استبدالا قاطعا، وموطن المخافة في هذا الرأي أن هذه الجامعات المهجورة قائمة لا يُزيلها التَّعامي عنها!
3 وإما أن نغيرها ونستبدل بها جميعا معا، وموطن المخافة في هذا الرأي أن تتفاوت بين الجامعات المعمورة والمهجورة، الفُرَصُ منحا ومنعا؛ فيرتدّ ظلمٌ، ويضطرب حقدٌ، وينتشر فسادٌ.
والرأي هو الثالث، على أن يتاح لأهل الجامعات المهجورة الفاصلة بين الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية المتكاملات -إذا غَيَّروا ما بأنفسهم- أن ينتقلوا إلى الجامعات المعمورة الواصلة بين هذه المتكاملات، فتزول المهجورة بانتقالهم عنها قليلا قليلا.
وربما ظُنَّ هذا هو ما تفعله الآن هيئاتُ الجودة والاعتماد، وليس به؛ فلا علاقة لهيئات الجودة والاعتماد بغير التجهيزات الأوَّليَّة الظاهرة على المستويات التأسيسية والتكميلية فقط، ولا اعتبار عندها لمقام تكامل الفنون والعلوم والمهارات اللغوية وغير اللغوية، الحضاري الراسخ العالي، الذي تنسلك في سِلْكه المستوياتُ كلُّها عُليا وتكميليةً وتأسيسيةً، وترتوي من معينه، وتستظل بظله.