اعتنى العرب بأسمائهم عناية خاصة لأنها وسيلة من وسائل التعريف، وأداة لقضاء الحاجات ،وواسطة للوصول إلى الأغراض , ثم ترقتْ هذه العناية فوصلت إلى مستويات راقية، اتضحت من تلك الطرائق التي سلكوها في تناولهم لأعلامهم , وقبل عرض بعض هذه الطرائق أود أن أذكّر القارئ بأن النحويين والصرفيين قدموا دراسةً متميزة للأسماء العربية،سجلوها في كتبهم ،لقد ذكر النحاة قواعد ضابطة موضحة للعَلًم بناء على استقرائهم كلام العرب .
فالعلم عندهم على ضربين:
أـ علم شخصي نحو: زيد ومكة وثبير (اسم جبل)
ب ـ وعلم جنسي يريدون به أنهم إذا رأوا أسداً مقبلاً وقالوا :هذا أسامة، فمرادهم جنس الأسود , ثم جعلوا العلم اسما ولقبا وكنية , وخصوا العلم الجنسي بوقوعه في المعاني كسبحان الله علم على تنزيه الله، وفي الحيوانات كأم عامر للضبع , وأم عريط للعقرب , وأضافوا في دراستهم للعلم انقسامه إلى مرتجل ومشتق , فالمرتجل هو : علم في أصل وضعه كزيد والمشتق : هو علم منقول عن مشتق كالحارث ومحمود وفضل .
وتحدث الصرفيون أيضاً عن قواعد عامة تتعلق بالأعلام أيضا ًمن نحو: تصغيرها ونسبتها وشذوذها , مقررين أن " الأسماء الأعلام كثيراً مايعدل ببعضها عن قياس الكلام"
وهذا الدرس النافع الجيد الذي قدمه النحاة والصرفيون جعل درس الأعلام العربية واضحاً تماماً , والناظر في كتب اللغة أيضاً يلحظ صدى هذه القواعد، ويلحظ أيضاً صورة حية للأعلام في الدرس اللغوي العربي، لقد تعددت استعمالاتها وتنوعت , ولا شك أن كثرة الاستعمال عندهم لهذه الأعلام جعلتهم يتوسعون في التصرف بها ،الأمر الذي أدى اٍلى طرافة النظر فيها،لقد امتلأت كتبهم بالنصوص والطرائف التي تلقي أضواءمضيئة على طرقهم التي سلكوها في تناولهم لأعلامهم ,وهي تلتقي في النهايةعند هدف واحد، يبدوفي حرصهم على اٍظهارالعلاقة القائمة بين الاسم والمسمى, ولقد تنوعت هذه العلاقة وتعددت :
أـ فربطوا العلم الشخصي بعالم الحيوان كثيراً, لقد أشار المبرد إلى ذلك حين تحدث عن الألقاب التي أطلقت على بعض الأعلام , قال : كان أبو زيد الأنصاري يلقب الناس , فلقب الجرمي بالكلب لجدَله واحمرار عينيه , ولقب المازني تُدْرُج لأن مشيته كانت تشبه التُدرُج , ولقب أبا حاتم رأس البغل لكبر رأسه , ولقب التوزي أبا الوزواز لخفة حركته وذكائه , ولقب الزيادي طارقا لأنه كان يأتيه بليل
واتجهوا الى أسماء الحيوانات- والجمادات أيضاً لكن على قلة- حين أرادوا تسمية أولادهم, وقد وضح ابن فارس العلة في ذلك مشيراً إلى طريقة تفكير العربي في إطلاقه الاسم على المسمى , قال : "وأما تسمية العرب أولادها بكلب وقرد ونمر وأسد , فذهب علماؤنا إلى أن العرب كانت إذا وُلِدَ لأحدهم ابن ذكرٌ سماه بما يراه أو يسمعه , مما يُتفاءل به, فإن رأى حجراً أو سمعه تأول به الشدة والصلابة والبقاء والصبر , وإن رأى ذئباً تأول فيه الفطنة والنُّكر والكسب , وإن رأى حماراً تأول فيه طول العمر والوقاحة , وإن رأى كلباً تأول فيه الحراسة وبعد الصوت والإلف , وعلى هذا يكون جميع ما لم نذكره من هذه الأسماء
و أكد على ذلك السيرافي أيضا مظهراً الصلة بين الاسم والمعنى وعلة َذهاب العرب إلى تسمية أولادهم بالأسماء التي تتضمن تفاؤلاً أو تشاؤماً , قال : فأما الحارث والحسن والعباس فمذهب العرب في هذه الأسماء وما جرى مجراها أن يجعلوها لأولادهم وسائر من يسمونه بها تفاؤلاً وترجياً , أن تصير فيهم تلك الأشياء , فيغرونهم لما تُراد له تلك الأسماء , نحو : الحارث ومعناه الكاسب الذي يحرث لدنياه ويكسب , والعباس المحارب الذي يعيش في الحرب , فسمَّوا بها لما أعدوا له كما يقال: الأضحية والذبيحة لما أُعد لذلك , وربما اعتقدوا له معنى أو رأوا فيهم أو وصفوهم فيه , وغلب فشهروا به, وأغنى عن اسم سواه من الأعلام , كتسميتهم بالحسن والأعز وما أشبه ذلك
ولم يكتف اللغويون ببيان العملية الذهنية عند العربي حين أطلق الاسم على المسمى بل راحوا يوضحون لنا نضجاً آخر يتمثل في رقي التعليل عندهم , وبيان اتساعه وشموله , يبدو ذلك من ردهم على الشعوبيين المنكرين فضلَ العرب ومكانتهم , قال الثعالبي " وقال بعض الشعوبية لابن الكلبي : لِمَ سمتِ العرب أبناءها بكلبٍ وأوس وأسد وماشاكلها وسمت عبيدها بيسر وسعد ويُمن ؟ فقال - وأحسن -: لأنها سمت أبناءها لأعدائها وسمت عبيدها لأنفسها فلله درها على فطنتها وحسن تعليلها .
وقد ظهرت علاقة الإنسان بالحيوان عندهم حين أطلق بعضهم أسماءً على أولادهم معتقدين أن لأسماء الحيوانات أسراراً تسري على أولادهم في بقائهم أحياء , قال أبو العباس : قال ابن الأعرابي : كانت امرأة لا يَبقى لها ولدٌ إلا أفقدها , فقيل لها: نفري عنه، فسمته قنفذاً، وكنته أبا –العدَّاء فعاش
ولم يكتفوا بهذا الاعتقاد ،بل اعتقدوا أن هناك أسراراً كائنة في الحروف التي يتألف منها الاسم، فحروف العلم لها خاصية تأثير على ما يجري على هذا المسمَّى من أحداث الدهر ومصائبه , ومن القصص الدالة على ذلك قصة عمر بن الخطاب مع جمرة , حُكي أن عمر سأل رجلا ما اسمك؟ قال : جمرةُ ،قال: ابنُ مَنْ؟ قال: ابن شهاب، قال :ممنْ ؟ قال :من الحرقة , قال : ثم ممنْ؟ قال: من بني ضِرام, قال: أين مسكنكم؟ قال: في الحَرَّةِ، قال :من أيّتِها؟ قال : ذاتِ لظىً، قال عمر: أدركْ أهلك فقد احترقوا , فكان كما قال عمر
-
-ومما يندرج تحت هذا المظهر ،ويتصل منه بسبب، اعتقاد هم أيضاً أنهم حين سمَّوا أولادهم تفاؤلاً، كان عندهم استشعار بدلالة حروف لفظة العلَم مجتمعةً على ما يمكن أن يكون عليه حالُ هذا المسمى ,على حد قولهم :لكل اسم من مسماه نصيب ، فمن الحكايات الدالة على ذلك أيضاً , حكاية حنظلة النميريِّ مع ابنه العاق الذي أسموه (مُرَّة ) , قالوا: كان لحنظلةَ النميريِّ ابنٌ عاقٌّ يُقال له :مُرَّةُ: فقال له يوما: إنك لمُرٌّ يا مُرة، ُقال : أعجبتني حلاوتك يا حنظلةُ , قال : إنك خبيثٌ كاسمك , قال: أخبثُ مني من سمّاني , قال : كأنك لستَ من الناس , قال : من شابه أباه فما ظلم , قال: ما أحوجُك إلى أدبٍ , قال : الذي ربّاني أحوجُ مني , قال : عقمتْ أمٌّ ولدتْك , قال: إذا ولدتْ مِنْ مثلِك , قال: كنت مشؤوماً على إخوتك ’ دفنتَهم وبقيتَ , قال : أعجبني كثرةُ عمومتي , قال: لا تزداد إلا خبثاً , قال: لا يُجنى من الشوك العنبُ .
نعم إن كل إجاباته تحمل الألم والحسرة والمرارة التي تنبعث من اسمه (مرة)
-
-ومما يتصل بهذا أيضاً أن بعضهم كان يكره اسمه ،فيتشاءم منه ويتطير به , من ذلك أن "يموت بن المزرع العبدي البصري- ابن أخت الجاحظ - كان أديباً إخبارياً صاحب ملح ونوادر، وكان لا يعود مريضاً خشية أن يتطير باسمه , وكان يقول : بُليتُ بالاسم الذي سماني به أبي، فإني إذا عدت مريضاً فاستأذنت عليه , فقيل : من هذا ؟ قلت: ابن المزرع , وأُسقطُ اسمي
-واستخدم بعضهم لفطانته اسمه ليربطه بعالم الأنواء والنجوم , ذُكِرَ أن بعض الخلفاء سأل رجلاً عن اسمه، فقال : سعدٌ يا أميرَ المؤمنين , قال: أيُّ السعود أنتَ ؟ قال : سعدُ السعودِ لك يا أمير المؤمنين , وسعدُ الذابح لأعدائك , وسعدُ بلع على سماطك , وسعدُ الأخبية لسرك , فأعجبه ذلك