فن أصيل يعود إلى الزمن العباسي.. المقام العراقي خصوصية مهددة بالاندثار
موسيقيون عراقيون يشاركون في مهرجان "المقام العراقي" في بغداد الذي عُقد منتصف عام 2009 لأول مرة في العاصمة العراقية (الفرنسية)
ورد في كتب السير أن الخليفة العباسي المعتمد بالله (870-892 م) سأل المؤرخ ابن خرداذبة (820-912)، مؤلف كتاب "اللهو والملاهي"، ما صفة الحاذق؟ فأجاب ابن خرداذبة "المغني الحاذق يا أمير المؤمنين، من تمكن من أنفاسه، ولطّف من اختلاسه، وتفرّع في أجناسه".
لعلّ هذه الإجابة تنطبق على المقام العراقي، وهو لون من ألوان الغناء السائدة في العراق، تمتد جذوره إلى سنوات موغلة في القدم، لتصل إلى الدولة العباسية، ومن ثم انتقل شفاهًا عبر قرّاء المقام إلى الأجيال اللاحقة وصولًا إلى الوقت الحاضر.
ويُعدّ المقام العراقي نوع موسيقى عراقية أصيلة، يُغنى باللهجة العراقية الدارجة، ويتمتع بعمق عربي إسلامي تاريخيًا وثقافيًا، ويتمتع بتأثيرات غرب آسيوية.
نكهة عراقية
ويختص المقام العراقي، بوصفه واحدا من الفنون الموسيقية العربية القديمة، بطراز خاص أضاف إليه العراقيون ما استحسنوه من أنغام بعض الشعوب الشرقية التي وفدت إليهم في العصر العباسي. وكان يُغنّى في البداية في التقاليد الدينية والقصائد الصوفية، وكذلك استُخدم كأبرز مقامات تلاوة القرآن الكريم.
ويقول قارئ المقام العراقي طه غريب "كان للفن دور حضاري مهم في الحياة اليومية في بلاد الرافدين، وكانت الموسيقى ترافق جميع العبادات الدينية في المعبد أو خارجه في جميع الاحتفالات والمناسبات والمراثي بأنواعها، ونتيجة لذلك كانت الموسيقى ضمن جدول إعداد الكهنة، وكانت تُدرس في مدرسة المعبد مدة 3 سنوات".
يُذكر أن المقام العراقي بلغ بألحانه المميزة والمتنوعة دول آسيا، ثم انتقل منها إلى تركيا وإيران وأفغانستان وحتى الهند.
مصطلحات وألحان
والمقام نوع من الغناء الكلاسيكي يتألف من مقاطع عدة لا تقبل الزيادة أو النقصان، ولقراءته أصول وقواعد، بالارتجال الكامل الذي يعتمد على السمع وينطق بالحنجرة وبالتنقل على السلالم الموسيقية بطريقة مضبوطة. ومن أهم المقامات الرئيسة: مقام الرست، ومقام النهاوند، ومقام الحجاز، ومقام البيات، ومقام السيكاه، ومقام الصبا، ومقام العجم، ومقام الكرد.
ويؤكد الباحث في الفنون التقليدية الموسيقية سامي هيال "أن المقام العراقي هو عرض موسيقي يتكون من أجزاء تشتمل على تحرير أو بدوة، وقطع أو أوصال، وعلى الجلسة، والميانة، والصيحة، والقرار وأخيرًا التسليم".
وأوضح هيال -في حديثه للجزيرة نت- أن "الآلات الموسيقية المصاحبة للمقام العراقي، التي يطلق عليها الجالغي البغدادي، كتسمية معروفة، تشمل آلة السنطور وهو شبيه بآلة القانون، والجوزة وهي آلة وترية تصنع من غلاف جوز الهند وقد أخذت من مواصفات آلة الكمان، وهناك آلة الإيقاع والرق أيضًا وهي دائمًا تصاحب المقام العراقي".
ومن الصفات المميزة للمقام العراقي وجود كلمات وعبارات معينة غير عربية ومنها عربية يرددها المغني أثناء قراءة المقام في مواضع معينة، دون أن يكون لها أي علاقة مباشرة بالشعر المغنى، ويستخدم معها آلة الجوزة الموسيقية العجيبة.
الباحث العراقي في الفنون الموسيقية سامي هيال أشار إلى استئناس المقام العراقي بألحان فارسية وتركية (مواقع التواصل)
ويبين هيال أن "كثيرًا من الألحان الفارسية والتركية دخلت على المقام العراقي، وهي التي يغني بها المغني الآن. وقد تسمع من المغني العراقي وهو يغني بلفظة (يا دوست) بمعنى يا صديق، وكلمات أخرى مثل (فرياد من) بمعنى النجدة، و(دل يا ندم) بمعنى قلبي اشتعل، و(إيكي كوزم) بمعنى عيناي الاثنتان، و(دل من) بمعنى قلبي، و(جان من) بمعنى روحي، و(أفندم) بمعنى سيدي".
وبدوره يعلق قارئ المقام طه غريب -في حديثه للجزيرة نت- قائلًا إن "الأقدمين وضعوا هذه الكلمات لتكون بمنزلة مفاتيح نغمية تساعد قارئ المقام على ضبط المسار اللحني للمقام، ويتطلب أداؤها دقة عالية ومعرفة بالكلمات، ويُعدّ ذلك بمنزلة الافتتاحية في العمل السيمفوني أو الاستهلال في الموسيقى".
مؤنس ومسلّ للبغداديين
وعلى الرغم من قدم المقام العراقي، فإنه بقي متجسدًا في كل نواحي الحياة اليومية للعراقيين وخصوصًا في بغداد والموصل وكركوك، وربما يدل ذلك على رفعته وأصالة منبعه.
ووُصف المقام العراقي بأنه تراث موسيقي، ذو طبيعة ارتجالية في الغناء والعزف على مختلف السلالم الموسيقية التقليدية بطريقة مضبوطة، هذا في حال كانت المناسبة التي يُقرأ فيها المقام دنيوية. أما إذا كانت المناسبة دينية فيقتصر أداء المقام على الغناء من دون آلات موسيقية كما في المولد والتهاليل والتواشيح والتحميد، ولم يقتصر المقام على ذلك بل كان حاضرًا في كل فنون بغداد، وحتى الأذان كان يؤذن بالمقام العراقي، وكذلك المدائح النبوية تغنّى به.
ويرى بعض قرّاء المقام العراقي أن المقام أصبح في الوقت الحالي أكثر دنيوية، في حين يؤكد سامي أن "الغناء في العراق لا يتحدد بنوعيه المفرح والحزين إذ يُغنّى المقام المفرح في المناسبات كالأعراس وختان الأولاد والمناسبات الوطنية، ويتخلل ذلك أيضا مقامات بطابع حزين إذ إنه يُعرف أن الغناء الحزين يغنّى في العراق حتى في المناسبات السعيدة". ويضيف هيال "أما في المناسبة الحزينة فيكون هناك الفراكيات والمواويل والأبوذية التي تتناسب مع الحزن، وذلك لأن العراق يميل إلى أطوار الحزن في أكثر الأحيان".
الفن الرجولي
إن الحالة الانفعالية في غناء المقامات العراقية يمكن أن تكون أحد الأسباب في وصفه (بالفن الرجولي)، وبسبب ذلك -كما يبدو أيضا- رفض الرجل البغدادي الممارسات الغنائية المقامية النسوية كتجربة جديدة رائدة في غناء المقامات العراقية.
ووُصف المقام العراقي بأنه غناء ريفي جبلي يؤديه الرجال، وكان هناك خوف وتردد لدى قارئات المقام في البدايات، ولذا كانت المرأة تهاب هذا الفن ولا تقربه، إلى أن تطور في بغداد، وأصبحت المرأة تؤديه في العصر الحديث. ومن جهته يقول هيال إن "أكثر الذين برزوا في فن غناء المقام العراقي هم من الرجال إلا قلة قليلة من النساء فلذلك يبقى الرجال متربعين على العرش في غناء المقام العراقي".
وأضاف أن "النساء اللاتي دخلن معترك المقام العراقي كان لهن دور مهم لكنه ليس بمستوى الطموح".
وبدورها توضح قارئة المقام العراقي المقيمة في هولندا فريدة محمد علي بقولها، "نُظر إلى هذا الفن على أنه رجولي لأن أماكن العرض كانت تقتصر على المقاهي والزورخانة (المكان الذي يتدرب المصارعون فيه على رياضة المصارعة) ومجالس الأذكار النبوية، وهذه الأماكن كان من العسير على المرأة أن توجد فيها نتيجة التقاليد الاجتماعية، فلذلك رسخت فكرة أن المقام فنّ رجولي فضلا عن أن بعض المقامات تحتاج إلى قوة صوت غير طبيعية".
ويرى هيال أن "المقام العراقي بقي محتفظًا برجولته رغم محاولات الفنانة مائدة نزهت والفنانة فريدة محمد علي دخول ساحته".
أصوات نسائية
وعن اقتحام النساء ساحة المقام العراقي الذي عُدّ على مر العصور فنًا رجوليًا، يقول طه غريب "عرف العراقيون أصواتًا نسائية متنوعة استطاعت أن تؤدي بعضا من المقامات بما يتناسب وأصواتهن، فقد سجلت المطربة صديقة الملاية عام 1925م أسطوانات لعدد من المقامات، وبذلك فتحت الباب أمام أصوات نسائية لأداء بعض المقامات الفرعية والبسيطة مثل جليلة العراقية، وبدرية أنور، وزهور حسين، ولميعة توفيق، ومائدة نزهت، وفريدة محمد علي".
وأضاف غريب أن ذلك "على الرغم من أن ساحة المقام العراقي تميزت بأصوات رجولية قوية، لأن أداء المقام العراقي في كثير من المقامات يتطلب مساحة صوتية عريضة لا تتوفر في الأصوات النسائية".
وتتحدث فريدة محمد علي عن نفسها فتقول للجزيرة نت "لا يفوتني أن أذكر هنا أنني أدّيت حتى الآن أكثر من 20 مقامًا وفق القواعد والأصول، التي تتقيد بها المقامات العراقية، فضلا عن أنني كنت المرأة الأولى في تاريخ المقام العراقي أقوم بتدريس هذه المادة في معهد الدراسات الموسيقية وبتشجيع من أستاذي الفنان الكبير منير بشير، وكذلك أستاذي الدكتور حسين الأعظمي".
أما الأستاذ المساعد في جامعة صلاح الدين في أربيل، لانس جوزيف كونوي، فيقول في حديثه للجزيرة نت، "تمتلك سيدة المقام العراقي فريدة صوتًا مميزًا مع صدق الأداء والقابلية الغنائية المميزة من حيث التحكم بالمساحة الصوتية والتصرف والارتجال مع توظيف جماليات الأداء الغنائي وفق واقع الصوت النسائي، أوصلها بعد عطائها الكبير عبر حقبة زمنية إلى مرتبة فرض وجودها بين كبار قارئي المقام العراقي، ويصعب تكرار هذا الأنموذج الصوتي النسائي".
وبدوره تحدث الدكتور محمد حسين كمر أستاذ العلوم والنظريات الموسيقية وخبير المقامات العراقية، عن فريدة محمد علي بقوله "فريدة من الأصوات النسائية المتمكنة من أداء المقام العراقي لأنها تمتلك المواصفات المطلوبة لقراءة المقامات، وقد أدّت على مسارح عالمية أكثر من 20 مقامًا وهذا العدد لم تبلغه أي من القارئات السابقات وكذلك بعض القارئين الرجال لم يؤدّ هذا العدد".
إرث فني
وكان للمقاهي العراقية دور بارز في تطوير هذا الفن إذ إنها تعدّ مدارس أدائية لهذا الفن الراقي العابر للحدود. فعام 1910م كان بداية لإقامة حفلات أسبوعية لقرّاء المقام، وكان عشاق هذا الفن يأتون إلى المقاهي البغدادية ليستمعوا إليه.
يقول الباحث سامي هيال "كان للمقاهي البغدادية دور مهم في انتشار المقام العراقي فضلا عن الأغاني الريفية، ونذكر على سبيل المثال لا للحصر مقهى الزهاوي ومقهى أم كلثوم ومقهى الشابندر ومقهى الفضل ومقهى عزاوي".
كما أشار هيال إلى أن هناك مقاهي أخرى كان يُقرأ فيها المقام العراقي مثل "مقهى الباشا ومقهى الأسكجية ومقهى المشاهدة ومقهى محمد القبانجي. وفي هذه المحلة كان هناك مقاه عدة منها: مقهى روازي ومقهى الأورتمة ومقهى القهوة الصغيرة. حيث كان يقرأ فيها أيضا مطربو المقام أحمد زيدان ونجم الدين ورشيد القندرجي وغيرهم".
وأما أبرز الشخصيات التي كان لها دور في أداء وتطوير المقام العراقي، فتذكر فريدة محمد علي "أن المتبقين من قرّاء المقام العراقي المحترفين الذين لهم بصمة في هذا المجال الدكتور حسين الأعظمي والأساتذة حامد السعدي وسعد الأعظمي وصباح هاشم وخالد السامرائي وطه غريب وقيس الأعظمي".
فريدة محمد علي سيدة المقام العراقي الأولى تغلبت على شدة المقامات التي لم تعد خاصة بالرجال (مواقع التواصل)
خارج دائرة الاهتمام
ونتيجة للأوضاع السياسية السائدة في العراق واستمرار الحروب، ومثل كل مفاصل الحياة الثقافية، تعرّض المقام العراقي للتهميش والفوضى، بعد أن كانت تقام الأمسيات الخاصة بالمقام العراقي، وكذلك سهرات الجالغي البغدادي التي كانت تقام في "خان مرجان" الأثري في شارع الرشيد، واليوم أصبح المقام العراقي على وشك مغادرة دائرة الاهتمام، نتيجة الإهمال الرسمي لهذا الفن العراقي الأصيل.
بدوره، يلفت غريب إلى أن تناقص أعداد قرّاء المقام العراقي وقلة اهتمام المؤسسات المعنية بهذا التراث، سيؤثران حتمًا في سلسلة الانتقال بين الأجيال، وأضاف غريب أن هذا ما أكدته منظمة اليونسكو عام 2007 باعتبار المقام العراقي أحد الفنون الإنسانية المهددة بالزوال، ولذا كان الحفاظ عليه وتجديده وتطويره مهمة ملحّة قادها بعض رموز الغناء العراقي.
ويشير إلى أنه "في عام 1996 تنبهت إلى خطورة اندثار المقام العراقي، فقد أعلنت تأسيس فرقة لإحياء هذا التراث، أسميتها (فرقة أنغام الرافدين)، قدمنا من خلالها كثيرا من الحفلات والمشاركات في مهرجانات ومؤتمرات في عدد من البلدان العربية والأجنبية".
ومن جانبه يقول لانس كونوي إن "خصوصية المقام العراقي مهددة بسبب انحسار فرص التلقي المباشر لعرض المقام العراقي إذ لا بد من توفير ظروف مناسبة لعروض المقام العراقي لا سيما أن هناك مناسبات وأماكن عرض خاصة تساعد محبّي ومتذوّقي المقام العراقي على التواصل".
ويختم محمد حسين كمر المشارك في تأسيس مؤسسة المقام العراقي في هولندا، حديثه للجزيرة نت، قائلا إن "المقام العراقي يمر بأخطر المراحل نتيجة عدم اهتمام الدولة والمؤسسات الفنية بهذا اللون الذي يعدّ هوية العراق الفنية".