ما أكثر ما قرأت وكتبت في السفر وهو قطعة من العذاب؛ فما خف شوقي إلى أن أقرأ وأكتب في الحضر قاعدا حيث تعودت، مرتاحا من كل نصب إلا نصب التفكير والتعبير؛ فقد جربت الحالين مثلما جربهما سائر القراء والكتاب؛ فلم أنخدع ببهجتي بغنيمة السفر القرائية أو الكتابية، عن وظيفة الحضر -وشتان ما هما: تلك عارضة قريبة، وهذه باقية عميقة- بل ظللت أعجب ممن ذهب يعالج بالوقوف والتعب خموله ولم يرجع، ولو ذاق قراءة القعود والراحة وكتابتهما لعرف فرق ما بين الجد والهزل!
السكون
ربما بلغ الاشتغال بالقراءة والكتابة أن يكتم صاحبهما أحيانا نفسه، حرصا على التقاط خواطرهما؛ فكيف بمن لا يزال يحرك جسمه أو ينطق لسانه! أما الأول فكمن يحدو في السفر لينسى قلقه -ولو وقر القراءة والكتابة لوقرتاه، فاستقر جسمه- وأما الآخر فكمن يحكي ما لا يعنيه، ولو عنته القراءة والكتابة لصمت لسانه في حضرة عقله!
الإقبال
يحتاج التقاط خواطر القراءة والكتابة إلى تسليط العين والعقل كليهما إلى صفحة المقروء والمكتوب، حتى يتعاونا على تجاوز مراحل الإجمال والتحليل والتركيب، بتبين أعمال التحديد والترتيب والتهذيب. ولا خير في الانصراف عنها إلى صفحة الخيال إلا فيها -ففيها تحقيق الحقائق، وفيها تخييل الخيالات- وإلا انقلب الخيال شرودا بعيدا، مثلما تحتجب الحقائق. ولا حجة في المعروف عن بعض كبار المفكرين من انقطاعه للتفكير الباطن فترة ثم انتقاله إلى تسجيل ما حصله؛ إذ قد بلغ عندئذ من احتفاز الطاقات المجتمعة ما لا يقاس عليه ولا يدوم له.