التقسيم والترتيب
لن يتقن كاتب مكتوبه حتى يقسم أفكاره فيحسن تقسيمها، ثم يرتبها فيحسن ترتيبها؛ فمن الكتاب من يقسمها على مقدمات ونتائج مثلا، ثم يرتبها صعودا من المقدمات إلى النتائج، أو هبوطا من النتائج إلى المقدمات، أو دورانا من مقدمات إلى نتائج فمقدمات فنتائج، ولاسيما إذا أراد الإيحاء بترددها على الزمان. ولن يستوعب قارئ مقروءه حتى يتلبث قليلا ليميز تلك الأفكار وموضع بعضها من بعض؛ فإذا فعل به ذلك اشتمل عليه اشتمال الوعاء على ما يعي.
التعليق والتنبيه
ومما يساعد القارئ على استيعاب مقروئه، أن يعلق على حواشي أقسامه عناوين أفكارها، أو يميز بالتخطيط أو التلوين من عبارات أقسامه ما يتنزل عنده بمنزلة عناوينها. وربما سبق الكاتب في أقسام مكتوبه إلى عنونة أفكارها أو تخطيط ما يتنزل عنده من عباراتها بمنزلة عناوينها؛ فأغنى القارئ عن ذلك؛ فانصرف إلى تعليق ما يؤلف بينه وبين مقروئه، من أفكاره الموافقة أو الموازية أو المقابلة.
التهذيب والإعادة
ولقد ينبغي لكل قارئ وكاتب ما دام في المقام، ألا يتحول عما بين يديه حتى يوقن به ويطمئن إليه. ولا حرج على أي منهما إذا اختل منه قسم، أن يعيده وحده -وهذا عين التهذيب- ولا إذا اضطرب منه التقسيم كله أو الترتيب، أن يعيد قراءة مقروئه كله أو كتابة مكتوبه. ولا يمنعنه من ذلك خشية توالد الأفكار وتكاثرها عليه؛ فإن هذا عين التوفيق! وليس ألطف في سياق هذا المعنى مما عاناه الأستاذ عباس محمود العقاد القارئ الكاتب المنهوم؛ فقد اضطر مرارا إلى أن يترك مكتبته، إلى سجن من سجون الحضر أو السفر، ليفتقدها، فيشتري ما يتيسر له من كتب، لينقطع إليها وحدها على رغمه، يعيد، ويزيد، فكان يستفيد كل إعادة ما لم يستفده قبلها.
البناء والإيضاح والإلحاح
وهكذا -دواليك!- يشتغل القارئ والكاتب بأداة البناء (التقسيم، والترتيب)، ويستعينان عليها بأداة الإيضاح (التعليق، والتنبيه)، فإذا أتقن هذا الكاتب واستوعب ذاك القارئ فبها ونعمت، وإلا أفضيا إلى أداة الإلحاح (التهذيب، والإعادة)، وصبرا على بدوات الملل، وتصبرا بسنة الحال المرتحل القرآنية، التي استنها بعض القراء بغير القرآن حتى قضى وما قضى، واستنها بعض الكتاب حتى صار يعد إعاداته راضيا فاخرا: الكتابة الأولى، الثانية، الثالثة...!