القعود والجلوس فرق يعرفه فقهاء اللغة، وإن لكل علم فِقْهاً و فقهاءَ، وفقهاءُ الّلغة هم العارفون بحقائق الألفاظ ودلالاتها والفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة، وليس في العربية لفظة يدلّ معناها على معنى لفظة أخرى دَلالة مطابقة تامّة، وقد يُظَنُّ أنّ اللفظين المختلفين بمعنى واحد، وبينهما اختلاف كبير، بل قد يكون الّلفظ هو اللفظ وبينهما بون بعيد؛ بحيث لا يلتقيان أصلا؛ لأنهما ضدّان، وما سألت عنه يا -هيثم -هو من هذا، فإن فقهاء الّلغة يقولون: القعود يكون عن قيام، أي: هو تحول من أعلى إلى أسفل، ولهذا يقال للقائم: اقعد، ويقال لمن قعد عن الحركة التي تكون للواقف: قاعد، ومن ذلك القاعد عن القتال الذي جاء فيه آيات، منها قوله تعالى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} والمرأة القاعد -ولا يقال: قاعدة -هي المرأة الكبيرة التي لا ترغب في النكاح، ويكون ذلك بانقطاع الطمث، وتجمع على قواعِد، ولم يحتج إلى التاء الفارقة لأنه لا يوجد في الرجال من هو كذلك، واللغة العربية لا يزيد فيها حرف ولا ينقص إلا لمعنى، ولا عبث فيها. ولهذا ما احتاجوا إلى تأنيث الألفاظ التي تختص بالنساء، كحائض، وحامل، وطالق، ومرضع، وقاعد، الخ... وأما الجلوس فإنه يكون عن اتكاء أو اضطجاع أو سجود، أي: انتقال من أسفل إلى أعلى، والاتكاء يكون على أنواع، منها: الاتكاء على المرفق، ومنها: التّربّع الذي نسمّيه جلوسا، وهو لا يسمّى جلوسا إلا على جهة التوسّع، وإلا فهو اتكاء، وبه فسِّر معنى قول الراوي لحديث الكبائر: ((وكان متكئاً فجلس)) وهو تفسير محتمل. وبه يتضح لك أن الاتكاء بجميع أنواعه ليس نوعا من الجلوس فضلا أن يكون بعض أنواع القعود، ومثلُ هذا الفرقُ بين القيام والوقوف، والحضور والمجيء والإتيان، والإقبال والوصول، كلّ أولئك كان بين ألفاظه فروق في المعاني.. ومن أراد التفقه في ذلك فلينظر في كتاب الخصائص لابن جنّي، وفقه اللغة للثعالبي، ومفردات الراغب، وليكثر التأمل في ألفاظ القرآن، وسيجد ما يدهشه، ويذكي بصيرته، ويكسبه بصَراً بالدقائق، وغوصا على الحقائق، وسيَعلم حينئذ فضلَ العربية الباهر، وجمالها الآسر، وسلطانها القاهر، وسيعلم الراغبون عنها أيَّ منقلب ينقبلون.