حاولت بولندا أن تستغلَّ الأوضاع المضطربة في الدولة العثمانية، ورأت أن جلوس طفلٍ على كرسي الحكم فرصةً لتوسيع أملاكها على حساب العثمانيين. عبرت بولندا بجيوشها إلى إقليم البغدان التابع للدولة العثمانية، وكان أمير البغدان جاسبار جرازياني Gaspar Graziani قد غيَّر ولاءه من العثمانيين إلى البولنديين بعد أن عزله العثمانيون قبل ذلك بقليل. تواصل العثمانيون مع جابور بيثلين Gabor Bethlen أمير ترانسلڤانيا التابع لهم، واتَّفقوا على السيطرة عسكريًّا على البغدان. تحرَّكت الجيوش العثمانية بقيادة إسكندر باشا إلى البغدان في سبتمبر 1620م، ولحق بها جيش ترانسلڤانيا[1]. حدثت عدَّة معارك بين الجيش العثماني وجيش بولندا في الفترة من 17 سبتمبر إلى 7 أكتوبر في البغدان بالقرب من مدينة توتورا Ţuţora، وتُعْرَف -أيضًا- بسيكورا Cecora. كان الانتصار العثماني حاسمًا. قُتِل من الجيش البولندي معظمه. تُقَدِّر المصادر التركيَّة قتلى البولنديين بسبعين ألفًا، هذا غير الأسرى[2].
كانت حسابات العثمانيين في هذه المرحلة التاريخيَّة آنيَّة؛ بمعنى أنها لا تملك النظرة العميقة التي تُقَدِّر موازين القوى، وترصد التغيُّرات العالميَّة؛ ومِنْ ثَمَّ تأخذ الخطوات التي تنفعها في مستقبلها. أقول هذا الكلام لأنه -في رأيي- أن الدولة العثمانية كان ينبغي لها أن تحاول حلَّ المشكلة البولنديَّة سلميًّا لا عسكريًّا؛ بل وتحاول أن تكسب بولندا حليفًا لا عدوًّا؛ لأن بولندا ليس لها تاريخٌ طويلٌ من العداء مع العثمانيين، ويمكن نظريًّا أن يتحالفا سويًّا ضدَّ الأعداء المشتركين، وأخطرهم في هذا الوقت روسيا! لقد كانت روسيا من ألدِّ أعداء بولندا، ولها أطماعٌ واضحةٌ في أرضها، والحروب بينهما متَّصلة[3].
في الوقت نفسه فإن روسيا من الأعداء الظاهرين للدولة العثمانية، ولها أطماعٌ توسُّعيَّةٍ في القوقاز، والقرم؛ بل يمكن أن تُطالب بحقِّ الحماية للأرثوذكس الذين يُمثِّلون الجانب الأعظم من نصارى الدولة العثمانية في بلغاريا، واليونان، ومقدونيا، والإفلاق، وغيرها من مناطق البلقان. إن روسيا في الواقع عدوٌّ شرس، وإمكاناته ضخمة، وكان من الأولى للعثمانيين أن يضعوا أيديهم في أيدي البولنديين لحرب الروس، ولو لاحقًا. لعل الذي صرف هذا الأمر عن أذهان رجال الحكومة العثمانية في ذلك الوقت هو الحالة المتردِّية على المستويين السياسي والاقتصادي، التي وصلت إليها القيصرية الروسية في بدايات القرن السابع عشر، لكن الذي لم يلحظه العثمانيون هو استقرار الوضع في روسيا بداية من عام 1613؛م أي قبل الحرب العثمانية البولندية بسبعة أعوام، عندما تولَّت أسرة رومانوف القويَّة حكم القيصريَّة. ستكون روسيا بعد ذلك شوكةً حادَّةً في حلقي الدولتين العثمانية والبولندية، وكان الأولى لهما أن يتعاونا ضدَّها لا أن يتقاتلا سويًّا. كان الأمر يحتاج إلى بعض الدبلوماسيين الاحترافيين لا إلى الجنود الأشدَّاء! لكن هكذا جرت الأمور.
توقَّفت الحرب مع بولندا خلال الشتاء، وحمَّست هذه الانتصارات السلطان عثمان الثاني لإعادة الكَرَّة على بولندا في صيف العام القادم. حدثت بعض الاضطرابات الداخليَّة في إسطنبول هذا الشتاء عكَّرت من صفو هذا الانتصار. دُبِّرَت على ما يبدو مؤامرات لخلع السلطان. كان ردُّ فعل السلطان عنيفًا؛ حيث أعدم أخاه وليَّ العهد محمد في 12 يناير 1621م[4]! ترك هذا الإعدام أثرًا سيِّئًا عند الشعب؛ لكن الأسوأ من ذلك أنه هيَّج السلطانة قُسِم والدة القتيل، التي سيكون لها ردَّة فعلٍ تُناسب الحدث! لم يكن السلطان عثمان الثاني راغبًا في محاربة قُسِم أو غيرها، ولم يكن راغبًا في السير حذو أجداده، محمد الثالث، ومراد الثالث، اللذين قتلا إخوتهم تأمينًا لعروشهم؛ لأنه لم يقتل إلا محمدًا فقط، وترك إخوته السبعة الآخرين، ومنهم أربعةٌ من أولاد قُسِم؛ ولذلك نُرجِّح حدوث مؤامرةٍ من بعض الإنكشارية، أو رجال الدولة، واستخدام وليِّ العهد محمد في هذه المؤامرة، والمعلومات حول هذه الحادثة نادرة. صار وليُّ العهد بعد ذلك الأمير مراد (عمره تسع سنواتٍ آنذاك)، وهو ابن السلطانة قُسِم.
في صيف 1621م قرَّر السلطان عثمان الثاني استئناف الحرب ضدَّ بولندا، وقرَّر -أيضًا- أن يخرج بنفسه على رأس الجيش العثماني، وكان هذا نادرًا في هذه الفترة التاريخيَّة؛ حيث لم يحدث منذ عام 1566 -أي منذ خمسة وخمسين عامًا- إلا مرَّةً واحدةً عندما خرج محمد الثالث عام 1596م لحرب النمسا. كان خروج السلطان بنفسه مُلهبًا لحماس الشعب، خاصَّةً أنه كان في السادسة عشرة فقط من عمره.
خرج السلطان في 21 مايو 1621م بجيشٍ كبيرٍ يبلغ مائة ألف مقاتل، واخترق البغدان كلَّها، ووصل إلى قلعة خوتين Khotyn في الأراضي التابعة لبولندا[5] (في أوكرانيا الآن). كان من الواضح أن السلطان يريد فتح بولندا، أو بعض أراضيها، وليس مجرَّد تأمين البغدان، وكان هذا -في رأيي- طموحًا زائدًا لا يتناسب مع الإمكانات المعاصرة. ضرب السلطان الحصار حول قلعة خوتين بدايةً من 2 سبتمبر 1621م[6].
هذه البداية متأخِّرة؛ لأنها قريبةٌ من دخول الشتاء البارد جدًّا في هذه المناطق، وكان ينبغي للجيش العثماني أن يأتي مبكِّرًا عن ذلك التوقيت بشهرين أو ثلاثة، ولعلَّه تعطَّل بسبب اضطرابات إسطنبول، كما أن حركة الجيش كانت بطيئة؛ إذ قطع المسافة من إسطنبول إلى خوتين في ثلاثة شهورٍ كاملة. في أثناء الحصار حدثت مشكلاتٌ داخليَّةٌ في الجيش رآها السلطان بنفسه. كانت هناك تنافساتٌ غير مقبولةٍ بين القيادات، ولم تكن الروح جهاديَّة. اضطرَّ السلطان إلى عزل الصدر الأعظم أوهريلي حسين باشا Ohrili Hüseyin Pasha في 7 سبتمبر أثناء الحصار لعدم مساعدته لمنافسٍ له في الوزارة؛ ممَّا ضيَّع على المسلمين فرصة نصر. تولى الصدارة العظمى ديلاور باشا Dilaver Pasha الذي لم يكن كفئًا[7]. دارت عدَّة معارك أثناء الحصار، وتزايد عدد القتلى من الطرفين. بدأت الثلوج في التساقط مبكرًا هذا العام، وظهرت حالات تذمُّرٍ في الجيش، خاصَّةً من الإنكشارية. بلغ عدد الشهداء من الجيش العثماني خلال شهرٍ واحدٍ ما يقرب من أربعين ألف شهيد[8]! كثر القتل -أيضًا- في البولنديين؛ ولكن صمدت القلعة. طلب البولنديون الصلح، ورأى السلطان أن حالة الجيش، وكذلك حالة الطقس، لن تمكِّناه من إسقاط القلعة، فقَبِل مرغمًا[9]، وجرت المباحثات فورًا، التي أسفرت عن توقيع معاهدة خوتين في 6 أكتوبر 1621م.
في هذه المعاهدة أقرَّ الطرفان على ثبات الحدود بين الدولتين على ما كان قبل الحرب، وأقرَّت بولندا بتبعيَّة البغدان للدولة العثمانية، وهو ما كان قبل الحرب كذلك[10]. أي أن الحرب لم تؤدِّ إلى أيِّ تغييرٍ جيوسياسي، وهذه هي طبيعة قرن الثبات. كانت انتصارات العثمانيين على بولندا في 1620م موازيةً لخسائرهم في 1621م، فظلَّ الوضع كما هو عليه. يَعتبر العثمانيون أن محصِّلة الحرب هي النصر لهم؛ لأنهم أجبروا بولندا على الإقلاع عن فكرة ضمِّ البغدان، ويَعتبر البولنديون أن النصر كان حليفهم؛ لأنهم صدُّوا الجيوش الغازية، ومنعوها من دخول بولندا، وأجبروها -على كثرتها- أن تُوَقِّع على معاهدة سلامٍ مناسبة. أيًّا ما كان الأمر لم يكن السلطان عثمان الثاني راضيًا عن النتيجة؛ حيث سقطت طموحاته من فتح بولندا وتحقيق ما لم يُحقِّقه الأولون، إلى توقيع معاهدةٍ على سبيل الاضطرار أبقت الوضع على ما كان عليه![11].
[1] Szabó, János B.: «Splendid Isolation"? The Military Cooperation of the Principality of Transylvania with the Ottoman Empire (1571–1688) in the Mirror of the Hungarian Historiography’s Dilemmas, In: Kármán, Gábor & Kunčević, Lovro: The European Tributary States of the Ottoman Empire in the Sixteenth and Seventeenth Centuries (The Ottoman Empire and its Heritage), Brill, Boston, USA, 2013., p. 322.
[2] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/456.
[3] Stone, David R.: A Military History of Russia: From Ivan the Terrible to the War in Chechnya, Greenwood Publishing Group, Westport, CT, USA, 2006., pp. 23-24.
[4] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.صفحة 277.
[5] أوزتونا، 1988 صفحة 1/457.
[6] Hrushevsky, Mykhailo: The History of the Ukrainian Cossacks, Canadian Institute of Ukrainian Studies Press, University of Alberta, Edmonton, Canada, 1999., vol. 1, p. 368.
[7] أوزتونا، 1988 صفحة 1/459.
[8] Grant, R. G.: 1001 Battles That Changed the Course of History, Chartwell Books, New York, USA, 2017. p. 318.
[9] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, p. 570.
[10] أوزتونا، 1988 صفحة 1/457.
[11] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 636- 639.