لفت انتباهي استشهاد كثيرين بأبيات نُسِبت ـ دون تدقيق وتحقيق ـ الى إمام المتقين وسيد البلغاء علي بن أبي طالب عليه السلام ، تبعث على الشك في صحتها لكونها تتنافى مع خلائقه ومثله العليا التي عُرِف بها عليه السلام ، ومنها على سبيل المثال الأبيات القائلة :
دع ذكرهنّ فما لهنّ وفاءُ
ريح الصبا وعهودهنّ سواءُ
يكسرن قلبك ثم لا يجبرنه
وقلوبهن من الوفاء خلاءُ
وقول كهذا يتنافى مع كونه أميرا للمؤمنين رجالا ونساء ، وهو القائل :
من ينصب نفسه للناس إماما ، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره و ليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه !!
فهل يستقيم هذا التأدب لسيرته قبل لسانه بقول ينفي فيه وبشكل مطلق ، الوفاء عن جنس المرأة وليس عن امرأة بعينها ، فيبدو من خلال أبياته كما لو أنه أعدى أعداء المرأة ـ وهو القائل : ( ما من أحد أدخل على قلب فقير سرورا إلا خلق الله له من هذا السرور لطفاً ) فكيف يغيظ نصف رعيته ؟
يعترف الإمام علي " ع " بكونه ربيب النبي الأكرم القائل " رفقا بالقوارير " فكيف يقول عن هذه القوارير ما يتناقض مع قول مربّيه وقدوته الحسنة ؟
قد يقول قائل : لعل عليا عليه السلام قال أبياته هذه في لحظة غضب .. لكن مثل هذا الرأي يتناقض مع قوله عليه السلام :
( من ملك نفسه عن أربعة خصال ، حرم الله لحمه على النار : من ملك نفسه عند الرغبة .. والرهبة .. والشهوة .. والغضب ) فهل يُعقل أن يقول هذه الأبيات التي تشي بالرغبة والشهوة والغضب ؟
جاء في باب (وجوب إنصاف الناس ولو من نفسك) [13116] 1 - الجعفريات: بإسناد عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: (قال رسول الله " ص " : سيد الاعمال ثلاثة:
انصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ في الله، وذكرك الله تعالى في كل حال).
[13117] 2 - وبهذا الاسناد عن علي بن أبي طالب (ع) قال:
(ثلاثة من حقائق الايمان: الانفاق من الإقتار، والانصاف من نفسك، وبذل السلام لجميع العالم ) فقد قال " العالم " ولم يقل الرجل مستثنيا المرأة " ... كما أن كلمة " الأخ " في الحديث الشريف لا تعني الرجل ، إنما : الرجل والمرأة معا ، فالكلمة هنا اسم جنس تطلق على الإنسان بالمطلق ... وماذا عن زوجه سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء وأمهات المؤمنين زوجات النبي الأكرم وبقية زوجاته وزوجات بنيه ؟ ألسن نساء ؟ إذا صدّقنا أنه قائل هذه الأبيات فذلك يعني أنهنّ مشمولات بما ورد في الأبيات ـ وحاشاه من ذلك !!
مؤخرا ، تناقلت مواقع ومنابر أدبية عديدة حفنة أبيات من النظم الرديء على أنها من شعر سيد البلغاء وأفصح فصحاء العرب بعد النبي محمد " ص " علي بن أبي طالب عليه السلام ... حفنة أبيات منظومة يبدو أن كاتبها لا يميّز بين الخبر والحال ولا بين جملة الطلب وجملة الإستفهام ، مما يفضي الى الإعتقاد بأن كاتب هذه الأبيات الساذجة والمفرطة الركاكة أراد الإساءة الى سيد البلغاء بتعمده نسبتها إليه !
هذه الأبيات المنظومة هي :
لا تستغب فتُستغاب، وربما
من قال شيئا ً، قيل فيه بمثلهِ
وتجنب الفحشاء لا تنطق بها
ما دمت في جد الكلام وهزلهِ
وإذا الصديق أسى عليكَ بجهله
فاصفح لأجل الود ليس لأجلهِ
كم عالم متفضل، قد سبَّه
من لا يساوي غرزةً في نعلهِ
البحر تعلو فوقه جيفُ الفلا
والدّر مطمورا بأسفل رملهِ
وأعجب لعصفور يزاحم باشقاً
إلا لطيشته، وخفة عقلهِ
إياك تجني سكرا من حنظل ٍ
فالشيء يرجع بالمذاق لأصلهِ
في الجو مكتوب ٌ على صحف الهوى
من يعمل المعروف يجزى بمثلهِ
لو دققنا هذا الهراء المنظوم لوجدناه حافلا بأخطاء نحوية لا يقع في مثلها طلبة الدراسة المتوسطة وليس أحد أئمة النحو والبلاغة وفقه اللغة كالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ..
تبدأ المنظومة بالجملة الطلبية :
لا تستغب فتُستغاب، وربما
من قال شيئا ً، قيل فيه بمثلهِ
فإضافة للخلل العروضي في صدر البيت فإنّ " ربما " قد أفادت التقليل ـ أيّ : احتمال عدم حدوث استغابة المستغيب ، وهذا ما يتنافى مع مُراد القول بوجوب عدم الإستغابة .. وأما البيت الثاني فيبدو أن كاتب هذا الهراء لا يميز بين كلمتي " أسى " و " قسى " .. أسى تعني الحنوّ والتعاطف أو المداواة والعلاج كما في قول الحطيئة :
هُمُ الآسُونَ أُمَّ الرَّأْس لَمَّا
تَواكَلَها الأَطِبَّةُ والإساءُ
فهل يُعقل أن الإمام علي " ع " لا يفقه معنى " أسى " وهو الذي روى عنه المنذري ـ في لسان العرب ـ أَنه قال في المؤاساة واشتقاقها إن فيها قولين: أَحدهما أنها من آسى يُؤاسِي من الأُسْوة وهي القُدْوة، وقيل إنها من آساه يَأْسُوه إذا عالجه وداواه ) يُراجع لسان العرب في باب الفعل " أسا " !
لنلاحظ هذا الهراء :
البحر تعلو فوقه جيفُ الفلا
والدّر مطمورا بأسفل رملهِ
كلمة " الجيفة " تعني اللغة : جثة الميت ... والفعل " يعلو " يعني يرتفع .. فكيف يمكن للجيفة ـ وهي جثة ميتة ـ أن تمارس فعل الحيّ : الإرتفاع والعلو ؟ وما علاقة " جيف الفلا " بالبحر ؟ ثم : لماذا جاء خبر " الدر " منصوبا وليس مرفوعا ؟ هل سيد البلغاء لا يعرف أن الخبر موقعه الرفع وجوبا ؟
لنلاحظ في السطرين :
وأعجب لعصفور يزاحم باشقاً
إلا لطيشته، وخفة عقلهِ
الطيش لغة يعني : الخفة والنزق وعدم الإتزان .. فهو من الأفعال التي يقوم بها الإنسان وليس الطيور كما في الشاهد الذي يذكره لسان العرب ومعاجم اللغة في قول أبي سهم الهذلي :
أَخالِدُ قد طاشَتْ عن الأُمّ رِجْلُه
فكيف إِذا لم يَهْدِ بالخُفّ مَنْسِم ُ؟
وأما لغير العاقل فإن طاش يعني : الإنحراف عن الهدف كقولنا : طاش سهم الصياد فلم يصب الطريدة .( إستخدام " طيشة " كمصدر مرة شاذ ) ..
لندقق السطرين :
في الجو مكتوب ٌ على صحف الهوى
من يعمل المعروف يجزى بمثلهِ
بغض النظر عن الركاكة المفرطة فإن حرف الجر " على " يفيد الإستعلاء الصريح كقولنا : صعدت على المنضدة .. أو : وضعت الكتاب على المنضدة .. أو الإستعلاء المجازي كما في قوله تعالى : (فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ) : فهل الكتابة تتم " على " الورقة ؟ أم " في " الورقة ، على اعتبار أن " في " هي الحرف المختص بالظرف ؟
وماذا عن " مَنْ " الشرطية الجازمة ؟ هل يمكن أن يكون فعل جواب جملة الشرط " يجزى " مرفوعا وليس مجزوما وجوبا كما ورد في هذه المنظومة الساذجة :
من يعمل المعروف يجزى بمثلهِ ؟
لقد عجبت من تناقل هذه الأبيات الساذجة والمفرطة الركاكة والحافلة بالأخطاء النحوية على أنها من شعر سيد البلغاء علي بن أبي طالب عليه السلام وهو أحد أئمة اللغة العربية وفقهائها ، وقد لا أكون مجانبا للصواب لو قلت : إن واضعها أراد الإساءة لسيد البلغاء بزعمه أنها من شعره ... فعسى أن يُصار الى تحقيق الكثير من الأبيات المنسوبة الى علي بن أبي طالب عليه السلام ..
***
بقلم
يحيى السماوي