من لطف الله بالدولة العثمانية أن رزقهم عائلةً من العائلات الإداريَّة القويَّة، وهي عائلة كوبرولو Köprülü الألبانيَّة، التي قدَّمت عددًا من الصدور العظام المتميِّزين، الذين أداروا البلاد بكفاءةٍ على مدار نصف قرنٍ تقريبًا، من 1656 إلى 1702م، وهذه الإدارة حفظت الدولة من التفكُّك في ظلِّ وجود سلاطين غير أكفاء، ولقد كانوا من الأهميَّة لدرجة أن الفترة التي تولوا فيها منصب الصدارة العظمى عُرِفَت في التاريخ العثماني بالحقبة الكوبروليَّة Köprülü era[1].

فترة محمد كوبرولو باشا (1656-1661م)
كان محمد كوبرولو باشا Köprülü Mehmed Pasha رجل دولةٍ قديم. كان من أصولٍ ألبانيَّةٍ غير مسلمة. أسلم في طفولته في نظام الدوشيرمة[2]، وعمل فترةً في القصر الحاكم، ثم سلاح الفرسان، وترقَّى لاحقًا إلى رتبة باشا، وصار واليًا على عدَّة ولايات، مثل طرابزون، وإيچر، وقرمان، ثم صار وزيرًا لمدَّة أسبوع، أُحيل بعدها للتقاعد لخلافاتٍ مع القصر، وكان ذلك في عام 1652م، قبل هذه الأحداث بسنواتٍ أربع[3]. كان الرجل مشهورًا بنزاهته، ونظافة يده[4]، ويبدو أن هذه الصفة كانت نادرةً في هذه المرحلة التاريخيَّة! -أيضًا- كان معروفًا بدهائه السياسي، ومهاراته الإداريَّة، وعلاقاته الواسعة، وكاريزميَّته القياديَّة، وقدرته على التأثير على المستمعين له، والمتعاملين معه، وكذلك تميَّز بأسلوبه الحازم الصلب في تسيير الأمور، وهذه الصفة الأخيرة أكسبته عددًا من الأعداء، ومنعته من البقاء قديمًا في منصب الوزير؛ لكنها كانت مناسبةً للظرف الحرج الذي تمرُّ به البلاد.

في مقابلة السلطانة خديجة تورهان لمحمد كوبرولو اكتشفت السلطانة صفةً جديدة -إلى جانب صفة الأمانة- في الرجل المرشَّح لمنصب الصدارة العظمى، وهي صفة «الزهد في السلطة»! وهذه صفةٌ أندر من صفة الأمانة في هذا الزمن! لم يكن كوبرولو راغبًا في منصب الصدر الأعظم ولا غيره، ولم ينبهر في لقاء السلطانة بالعرض المطروح عليه؛ إنما على العكس وضع شروطًا لقبوله للمنصب! اندهشت السلطانة من رجلٍ في هذا الزمن يشترط قبل أن «يُمْنَح» أعلى منصبٍ في إحدى القوى العالميَّة آنذاك؛ لكن هذا ما حدث. كان شرط الباشا الرئيس هو أن يُعْطَى صلاحيَّاتٍ مطلقة، فلا يعترض على قراراته أحد، كائنًا مَنْ كان، ولو كان السلطان نفسه[5]! من أعجب الأمور أن السلطانة وافقت على شرط الباشا دون تردُّد؛ بل زادت على موافقتها أمرًا أعجب، وهي أنها أعلنت أن السلطان قد بلغ سنَّ الرشد (14 سنة)؛ ومِنْ ثَمَّ فهي تتنازل عن منصب «نائبة السلطنة»[6]، وتُصبح الصلاحيَّات المطلقة التي طلبها محمد كوبرولو باشا واقعًا فعليًّا قابلًا للتنفيذ! الواقع أن هذه المرأة كانت من أفضل النساء في التاريخ العثماني، وقد انصرفت بعد تسليمها «الأمانة» إلى كوبرولو إلى الأعمال الخيريَّة؛ حيث أسهمت في عدَّة مشاريع كبرى كان لها أكبر الأثر على الحياة الاجتماعيَّة والدينيَّة والثقافيَّة والتعليميَّة العثمانية في هذه الفترة[7].

استلم محمد كوبرولو باشا الصدارة العظمى في 15 سبتمبر 1656م[8]، وهذه لحظةٌ مهمَّةٌ في التاريخ العثماني؛ لأنها تُحدِّد نهاية الفترة التي عُرِفَت «بسلطنة النساء»[9]؛ حيث انسحبت السلطانة خديجة تورهان من الحياة السياسيَّة بشكلٍ رسميٍّ وواقعي، وكانت هذه هي النهاية الكاملة لتدخُّل النساء في السلطة إلى آخر عمر الدولة العثمانية[10]. -أيضًا- هذا التاريخ كان بدايةً لفترةٍ سيحكم فيها رئيس الوزراء (الصدر الأعظم) البلاد بشكلٍ كامل، ويُصبح السلطان مجرَّد رمز. سيكون الأمر شبيهًا -وليس مماثلًا تمامًا- لنظام بعض الدول المعاصرة في زماننا الآن التي يحكم فيها رئيس الوزراء في وجود مَلِكٍ شكلي؛ كإنجلترا، وإسبانيا، والسويد. وجه الاختلاف أن السلطان في هذه المرحلة يملك عزل رئيس الوزراء، ويملك عقابه كذلك، وبالتالي فيمكن له أن يستردَّ سلطته في الوقت الذي يريد. ستستمر هذه الفترة إلى آخر القرن الثامن عشر تقريبًا.

بدأ محمد كوبرولو باشا عمله بنشاطٍ كبير، كأنه في عمر الشباب. كان الرجل معزولًا عن العمل السياسي في السنوات الأربع الأخيرة، وعلى الرغم من ذلك كان مدركًا لكلِّ التفاصيل، وكان اعتزاله مفيدًا من ناحية أنه لم يكن منتميًا لأيٍّ من الأحزاب المتعارضة والمتصارعة على الحكم؛ ولذلك عَمِلَ متجرِّدًا عن الهوى، راغبًا في نفع الدولة دون ضغطٍ من أحد الأطراف. سرعان ما كوَّن الصدر الأعظم فريقًا من المساعدين الذين وثق فيهم، من الوزراء، وبعض قادة الإنكشارية، وكذلك بعض حكام الولايات. رَصَدَ كوبرولو باشا أهمَّ المشكلات التي تواجه الدولة آنذاك فوجدها ثلاثًا؛ التمرُّدات الداخليَّة، والتفوُّق البندقي العسكري في الدردنيل، والضائقة الاقتصاديَّة. كانت المشكلة الأخيرة مرتبطةً بالثانية؛ لأن إغلاق البنادقة للدردنيل أحدث أزمة غذائيَّة وأمنيَّة أدَّت إلى ارتفاع الأسعار، وأزعج الناس، وهذا وذاك، قادا إلى الثورات الشعبيَّة التي دعمت حركات التمرُّد هنا وهناك.

إذن كانت المشكلة الأكبر هي غلق الدردنيل، ومن هنا سعى كوبرولو باشا إلى تقوية أسطوله، وتعيين قياداتٍ جديدةٍ طموحة، وقرَّر التركيز على هذه المهمَّة في الفترة القادمة. استغلَّ الباشا فترة الشتاء في الاطمئنان على متانة الأسطول، وتدريب البحَّارة، ثم اصطدم في صيف 1657م مع الأسطول البندقي. خسر العثمانيون في البداية في شهر مايو؛ لكنهم قلبوا خسارتهم إلى نصرٍ كاسحٍ في معركةٍ استمرَّت ثلاثة أيام من 17 إلى 19 يوليو. لم تكن خطوات الصدر الأعظم عشوائيَّة؛ ولذلك لم يكتفِ بهذا النصر الكبير؛ إنما أتبعه بتصعيدٍ ناجحٍ يهدف إلى حسم المسألة، وتأمين مضيق الدردنيل بشكلٍ دائم. هذا دفعه إلى إكمال الصدام مع البنادقة والسعي لاحتلال الجزر الاستراتيجيَّة في بحر إيجة، والتي تضمن الأمان الدائم للمضيق. نجح الأسطول العثماني في السيطرة على جزيرة ليمنوس في 31 أغسطس، ثم تينيدوس في 13 نوفمبر[11]، وبذلك انتهى الخطر البندقي بشكلٍ كامل!

أدَّى هذا النجاح إلى تحقيق عدَّة نتائج إيجابيَّة. فُتِحَ المضيق بشكلٍ آمن، وعادت حركة التجارة طبيعيَّة، وانطلق الناس يعملون بعد طول ركود، وانخفضت الأسعار فجأة، وتحسَّنت قيمة العملة[12]، وبات من الواضح أن الخروج من الأزمة الاقتصاديَّة صار مسألة وقت. الأهمُّ من ذلك أن الشعب رأى نجاحًا حقيقيًّا لم يره في العقد الأخير كلِّه، وشعر بأن الدولة تسير في خطواتٍ مدروسةٍ لا عشوائيَّة، وهذا أسهم في زيادة الثقة في الصدر الأعظم الجديد، خاصَّةً أنه كان حريصًا على البحث عن رموز الفساد، وعقاب المرتشين والمتلاعبين بالممتلكات العامَّة، ومراقبة الأسواق. كان كوبرولو باشا شديدًا جدًّا في معاقبة الفاسدين والخارجين على القانون، وفي بعض التقديرات وصل عدد الذين أُعدموا في سنوات ولايته الخمس إلى خمسةٍ وثلاثين ألفًا[13]! والرقم قد يكون فيه مبالغة، خاصَّةً أنه تقديريٌّ، ولكنه في الواقع لن يكون بعيدًا تمامًا عن الحقيقة!

لم يكن النجاح الذي يُحقِّقه الباشا مُفْرِحًا لكلِّ الأطراف! إن مراكز القوى المستفيدة من فساد البلد لن تسكت على مثل هذه الإصلاحات، ولن تلتقي والصدر الأعظم في مسألة تحقيق الاستقرار؛ لأنها بكلِّ وضوح «تستفيد» من الاضطرابات والتوتر! حدثت عدَّة تمرُّدات هنا وهناك؛ في الأناضول، والشام، وكذلك في سلاح الفرسان السباهيَّة. واجه محمد كوبرولو باشا هذه التمرُّدات بحزمٍ كاملٍ وصل إلى العنف الشديد. في أحد هذه التمرُّدات اتَّفق واحدٌ وثلاثون باشا يقودون عدَّة مدنٍ في جنوب الأناضول والشام على القيام بتمرُّدٍ جماعي. وصلت الأخبار إلى الصدر الأعظم، وكان يملك شبكة استخبارات واسعة.

أمر كوبرولو باشا واليَ حلب أن يدعوهم إلى قصره موهمًا إيَّاهم بالاجتماع على وليمةٍ للتباحث في أمر التمرُّد. قام والي حلب -بأمر الصدر الأعظم- بإعدام الباشوات جميعًا في ليلةٍ واحدة[14]! كان هذا الإجراء الصارم سببًا في هدوء المنطقة سياسيًّا لعدَّة سنوات! فعل كوبرولو باشا الشيء نفسه مع تمرُّدٍ في السباهيَّة؛ حيث اتَّفق مع بعض قيادات الإنكشاريَّة وسَحَق التمرُّد بكلِّ قوَّة، مع الإيقاع بعددٍ كبيرٍ من الضحايا[15]. ينتقد بعض المؤرِّخين هذا الأسلوب الدموي الشديد في التعامل مع الانقلابات التي واجهها كوبرولو باشا؛ ولكن هؤلاء لا يُدركون طبيعة المرحلة التي استلم فيها الصدر الأعظم مهمَّته.

إنها فترة «فتنة»، وليست فترة استقرار. هؤلاء الذين يتمرَّدون هنا وهناك لا يسعون إلى الإصلاح من وجهة نظرهم، إنما يريدون أن ينتهبوا جزءًا من الكعكة العثمانية الكبيرة قبل أن تسقط وتتلاشى. هؤلاء لا يردعهم منطق، ولا يقتنعون بحجَّة، وهم مسلَّحون وأقوياء، ولا توجد عندهم خطوط حمراء، وقد رأيناهم قبل ذلك يقتلون صدورًا عظامًا، ووزراء؛ بل وسلاطين. هذا الصنف من البشر يحتاج إلى معاملةٍ خاصَّةٍ لا تنطبق عليها المعايير التي يتعامل بها الساسة مع شعوبهم في الظروف الطبيعيَّة المستقرَّة، ومن المعروف في الفقه الإسلامي أن الأحكام تختلف في زمان «الفتنة» عن الأزمان الأخرى، وأن التعامل مع الخارجين على الدولة بالسلاح يختلف عن التعامل مع المعارضة السلميَّة؛ لذا ينبغي تحليل خطوات كوبرولو في ضوء هذه الضوابط.

في الإطار نفسه ينبغي تحليل ما فعله الصدر الأعظم مع بطريرك الأرثوذكس بارثينيوس الثالث Parthenius III في هذه الفترة. لقد قامت مناوشاتٌ عسكريَّةٌ بين الدولة العثمانية وروسيا حول إحدى القلاع في أوكرانيا، وثبت للصدر الأعظم أن هناك مراسلاتٍ سريَّةً بين البطريرك الأرثوذكسي والحكومة الروسيَّة (الأرثوذكسيَّة) تهدف إلى ترجيح الكفَّة الروسيَّة في الحرب. اعتبر الصدر الأعظم هذه خيانةً عظمى وأعدم البطريرك. -أيضًا- خَفَّض درجة البطريرك من وزيرٍ إلى فريق أول، وهذا يعني أنه لن يحضر اجتماعات الديوان الحاكم، وكان البطريرك يحضرها منذ عهد محمد الفاتح، وسيظلُّ هذا المنع قائمًا إلى القرن التاسع عشر[16]. هذا الإجراء من الصدر الأعظم كان استثنائيًّا؛ فهذه هي المرَّة الأولى التي ينفذ فيها الإعدام في قيادةٍ نصرانيَّة، وكان الأرثوذكس -وخاصَّةً البطريرك- يتمتَّعون بصلاحيَّاتٍ واسعةٍ في الدولة العثمانية؛ ولكن الظرف الآن مختلف، والتخابر مع دولةٍ أجنبيَّةٍ محارِبةٍ له خطورته المعروفة. أمَّا استمرار منع البطريرك الأرثوذكسي من حضور جلسات الديوان بعد هذا الحدث لعقودٍ متتالية فيرجع إلى التصعيد الخطر الذي سيحدث في أخريات هذا القرن السابع عشر، وطوال القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، مع روسيا الأرثوذكسيَّة؛ فالحروب بينها وبين الدولة العثمانية ستكون شديدةً ودائمة، ومخاطر تسريب معلوماتٍ عسكريَّةٍ إلى الروس ستكون كبيرة، خاصَّةً أن الروس كانوا يطالبون دومًا بحقِّ حماية الأرثوذكس في الدولة العثمانية، وكذلك يطالبون باستلام ميراث الدولة البيزنطيَّة الأرثوذكسيَّة، وهو يشمل الأناضول، والبلقان، معًا. هذا يُفسِّر الإجراء العثماني في هذا الصدد.

كان اهتمام الصدر الأعظم مُنْصَبًّا بشكلٍ رئيس على تحسين الأوضاع الداخليَّة في الدولة، وخاصَّةً على المستويين السياسي والاقتصادي؛ فالدولة لن تقوى على نزال خارجي بينما بيتها الداخلي غير مرتَّب، ولذلك لم يَسْعَ إلى تصعيداتٍ خارجيَّةٍ قدر الإمكان. شَمِلت هذه الاستراتيجيَّة البنادقة أنفسهم، فلقد اكتفى كوبرولو بالأمان الذي وَفَّره في بحر إيجة، ولم يَسْعَ إلى حلِّ مشكلة جزيرة كريت، فالعمليَّات العسكريَّة هناك دائرة منذ عام 1645م، والأسطول العثماني يحاصر مدينة كانديا منذ عام 1648م، والموقف شبه متجمِّدٍ هناك؛ ومع ذلك كان الصدر الأعظم يرى عدم تشتيت قوى الدولة هنا وهناك إلا للضرورة القصوى، وكانت هذه حكمةً منه تدلُّ على رزانته وعدم اندفاعه، وكذلك على حسن إدراكه للواقع. ومع ذلك فهو كان يُقَدِّر لكلِّ حَدَثٍ قدره، فعلى سبيل المثال غزا أمير ترانسلڤانيا الموالي للدولة العثمانية چورچ الثاني راكوزي George II Rákóczi في عام 1657م الأراضي البولنديَّة، مدعومًا بالنمسا، بغية توسيع ملكه، فاشتكى سفير بولندا للصدر الأعظم الذي أصدر أمرًا لأمير ترانسلڤانيا بالانسحاب؛ ولكن الأمير رفض، وأعلن عصيانه للدولة. هنا لم يتوانَ محمد كوبرولو باشا عن تحضير جيشٍ كبيرٍ تزعَّمه بنفسه، وغزا في صيف 1658م ترانسلڤانيا، وحارب جيش راكوزي، وكان متحالفًا مع النمسا، وحقَّق نصرًا كبيرًا عليه أرغمه على الانسحاب من بولندا؛ بل والهرب إلى النمسا، وعادت ترانسلڤانيا إلى تبعيَّة الدولة العثمانية[17]. -أيضًا- كانت هناك بوادر انقلاب في الإفلاق الرومانيَّة في عام 1659م، فتمكَّن الصدر الأعظم من إخماده بسرعة، ثم حوَّل عاصمة الإقليم من تارجوفشت إلى بوخارست[18]، وهي أقرب من الأراضي العثمانية؛ وذلك لسهولة مراقبتها.

أين كان السلطان محمد الرابع من كلِّ هذا؟

الواقع أن أمر هذا السلطان عجيب! فقد ابْتُلِيَ -كما يقول أوزتونا- بالصيد[19]! ظهر نبوغه في هذا المجال منذ فترات شبابه الأولى، فكان يُنفق الأوقات الطويلة في هذه الرياضة، إلى درجة أنه كان يعيش في إدرنة كثيرًا -لا في إسطنبول العاصمة- لأنها أقرب إلى أماكن الصيد[20]! عُرِفَ هذا السلطان بلقب «الصياد»[21]! هذا الأمر صرفه عن السياسة وإدارة الدولة بشكلٍ كبير. ليس هذا أمرًا طبيعيًّا دون شك. لعلَّ السبب في ذلك التربية الناعمة التي تربَّى عليها على يد جدَّتِه قُسِم، ثم أمه خديجة تورهان، إلى أن وصل سنَّ الرشد وهو لا يعلم من أمور الحياة إلا اللهو واللعب، ولعل السبب هو الظروف الحرجة التي وُلِدَ فيها، والفتن التي كانت تعصف بالدولة، ولعل السبب هو قَتْل أبيه السلطان إبراهيم، فترك هذا أثرًا نفسيًّا قاسيًا عليه زَهَّده في السياسة، ولعل السبب هو اتفاق أمِّه السلطانة خديجة مع الصدر الأعظم على إعطائه صلاحيَّات مطلقة، وعدم تدخل السلطان في قراراته، فزاد ذلك من عزله، أو لعله -وهذا أقرب- لكلِّ هذه الأسباب مجتمعة. ولقد حدث في مرَّة أن طالب بعض المعترضين على سياسة كوبرولو من السلطان أن يلغي بعض قرارات الصدر الأعظم، ففعل السلطان، فتقدَّم كوبرولو باستقالته فورًا، وقال: إن هذا مخالفٌ للاتِّفاق المبرم مع السلطانة خديجة عند ولايته، فتراجع السلطان، ونفَّذ قرارات الصدر الأعظم الذي أكمل ولايته[22]! ومع ذلك فالسلطان محمد الرابع لن يُكْمِل حياته على هذه الوتيرة؛ إنما سنرى له وجودًا في الأحداث بدايةً من سبعينيَّات هذا القرن. نعم هو ليس كوجود السلاطين الأقوياء الأوائل؛ ولكنَّه سيكون مؤثِّرًا على كلِّ حال.
أرهقت الأعمال الكثيرة جسد الشيخ المسنِّ محمد كوبرولو باشا، فسقط مريضًا وهو في الثالثة والثمانين[23]. جاءه السلطان محمد الرابع بنفسه وجلس إلى جوار سريره يعوده. أشار عليه الصدر الأعظم بأن يُعطي الصدارة بعد موته لابنه فاضل أحمد باشا كوبرولو، وطمأنه بأنه جديرٌ بهذا المنصب، فقَبِل السلطان دون تردُّد. بعد هذا أوصى الصدر الأعظم سلطانه أربع وصايا تساعده على إدارة دولته؛ الأولى هي الامتناع عن أخذ نصيحةٍ من امرأة، وواضحٌ أن هذه النصيحة لتحذيره من العودة إلى عصر سلطنة النساء، ولمنع السلطانة خديجة تورهان، أو إحدى زوجات السلطان، من تكرار مأساة الصراعات القديمة، والنصيحة الثانية كانت عدم تعيين وزيرٍ شديد الثراء، ويبدو أنه بتجربته وجد أن هؤلاء الأثرياء يبحثون عن مصالح ثرواتهم؛ ممَّا قد يُؤثِّر على قراراتهم، أو أنهم يكونون أصحاب علاقاتٍ كبيرةٍ قد تدفع إلى حزبيَّة خطرة، أمَّا النصيحة الثالثة فكانت الحفاظ على الخزانة العامَّة ممتلئة دومًا بالمال، والنصيحة الرابعة والأخيرة كانت الحفاظ على الجيش دائمًا في حركة؛ لأنهم إذا تفرَّغوا عن واجبات القتال انشغلوا بأمور السياسة الداخليَّة؛ ممَّا يوتِّر الأجواء[24].

لقد كان محمد كوبرولو باشا رجلًا مُوفَّقًا في خطواته. كانت صدارته خمس سنوات فقط، حيث مات في 29 أكتوبر 1661م[25]، ومع ذلك فالإنجاز الذي قام به يحتاج إلى عقود لكي يكتمل. قضى في هذه الفترة الوجيزة على الفتن والمؤامرات، وترك البلاد هادئة داخليًّا إلى حدٍّ كبير؛ بل في حالةٍ من الاستقرار تُقارن بالعهود الأولى. تحسَّن الاقتصاد في عهده كثيرًا. نظَّم الجيش والأسطول بشكلٍ جيِّد، وحقَّق نجاحاتٍ ملموسةً في ترانسلڤانيا والإفلاق. أرجع هيبة الدولة على المستوى الأوروبي. لم يحسم مسألة كريت؛ ولكنه وضع أقدام الدولة على الطريق الصحيح بتأمين بحر إيجة، وتنظيم الأسطول، ورفع الحالة المعنويَّة للجيش والشعب، والأهم ترتيب البيت الداخلي؛ ليتفرَّغ الجيش بعد ذلك لمهامِّه الخارجيَّة، وقد أسهم كلُّ ذلك في حسم مسألة كريت في عهد خَلَفِه. يُقارنه بعضهم بالسلطان مراد الرابع[26]، الذي قام بإصلاحاتٍ مماثلةٍ في الفترة من 1632م إلى 1640م، ولكنني أرى محمد كوبرولو أعظم! وذلك لأسبابٍ ثلاثة؛ الأول هو سوء الظروف التي استلم فيها كوبرولو الحكم عن تلك التي بدأ فيها مراد الرابع إصلاحاته، والثاني هو قِصَر مدَّة الإصلاح التي احتاجها كوبرولو عن تلك التي احتاجها مراد الرابع، والثالث -وهو الأهم- أن كوبرولو اهتمَّ بأن يترك وراءه من يمكن أن يُكمل مسيرة الإصلاح، فلم تعد الأمور مرتبطة بشخصه، فأكمل خلفاؤه المسيرة بنجاح؛ بينما لم يفعل مراد الرابع ذلك، وهذا يوضِّح عمق الرؤية عند كوبرولو. تذكر بعض الدراسات أن الجيل الذي تعلَّم على يد محمد كوبرولو باشا استمر يخدم الدولة بدقَّة إلى أوائل القرن الثامن عشر[27]، أي حوالي نصف قرنٍ كاملٍ بعد وفاته!

يُبْدِي المؤرِّخ الإنجليزي جوفري تريزور Geoffrey Treasure انبهاره بالنتائج التي وصل إليها كوبرولو في مدَّة ولايته القصيرة، ويؤكد أنها مثيرةٌ للإعجاب بأيِّ مقياسٍ من مقاييس زمانه[28]!

ختامًا لهذه الفترة ينبغي الإشارة إلى أن الخطوات التي قام بها محمد كوبرولو للإصلاح كان من الممكن أن تُعَطَّل في أيِّ مرحلةٍ منها. كان من الممكن أن ينجح أحد الانقلابات في التمرُّد عليه فتتغيَّر المسيرة، وكان من الممكن أن يغتاله أحد الموتورين، وكان من الممكن أن يعزله السلطان، وكان من الممكن أن يخسر وضعه إذا انتصر عليه البنادقة، أو نجح أمراء ترانسلڤانيا أو الإفلاق في مساعيهم الانقلابيَّة. كان من الممكن أن يحدث أيُّ أمرٍ من هذه الأمور فلا يَرِد ذِكْرُ كوبرولو في التاريخ، ويصبح كعشرات الصدور العظام الذين جاءوا ورحلوا دون أن نعرف أسماءهم؛ ولكنه في الواقع كان رجلًا موفَّقًا، وسِرُّ توفيقه في أمورٍ كثيرة؛ أعظمها في رأيي أنه لم يطلب الإمارة، ولم يَسْعَ إليها؛ إنما سعت هي إليه، ولم تكن هذه الإمارة تُمثِّل شيئًا عزيزًا على قلبه؛ بل كان على استعدادٍ للتنازل عنها لأيسر الأسباب. هذا الذي جَلَبَ له «الإعانة» من الله ! روى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ  أن النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَه: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا»[29]. هذا هو الذي كان عليه محمد كوبرولو!

فترة فاضل أحمد كوبرولو باشا (1661-1676م)
لم يحدث أيُّ اضطرابٍ في الدولة عند وفاة الصدر الأعظم القدير محمد كوبرولو باشا! السبب الأكبر في ذلك أنه ترك خلفه طاقاتٍ مدرَّبةً تستطيع إكمال المسيرة بالمنهج نفسه، مع التطوير الذكي بما يناسب المرحلة.

تولَّى الصدارة العظمى بعد محمد كوبرولو باشا ابنُه فاضل أحمد كوبرولو زادة باشا Köprülüzade Fazıl Ahmed Pasha ، وهذا هو أصغر صدر أعظم في تاريخ الدولة العثمانية كلِّها؛ حيث تولى الصدارة وهو في السادسة والعشرين من عمره[30]! ومع ذلك كان من أنجح الصدور العظام مطلقًا! كانت صدارته خمسة عشر سنةً كاملة[31]. كانت أوضاع الدولة في زمانه ممتازة، إلى الدرجة التي يقارنها بعض المؤرِّخين بفترة حُكْم سليمان القانوني[32]! هذه -في رأيي- مبالغة؛ ولكنها توضح درجة المجد الذي وصلت إليه الدولة في هذه الحقبة.

كان فاضل أحمد باشا كوبرولو شخصيَّةً استثنائيَّة. كان إداريًّا ناجحًا جدًّا، وتولَّى في عهد أبيه ولاية إرضروم عام 1659م، ثم ولاية دمشق عام 1660م[33]، إلى أن جاء لمنصبه الجديد. كان نظيف اليد لأعلى درجة، حتى إنه لا يقبل الهدايا مطلقًا، وكان إذا أهداه أحدٌ شيئًا لم يكتفِ برفض الهديَّة إنما يمتنع تمامًا عن تلبية الطلب الذي من أجله قُدِّمت الهديَّة[34]. لُقِّب أحمد باشا بلقب «فاضل» لأنه قلَّل الضرائب على الشعب، ودعم حركة التعليم[35]. يعتبر هذا الصدر الأعظم من أفضل الصدور العظام في تاريخ الدولة العثمانية من ناحية العلم والثقافة، بل كان من طائفة العلماء قبل أن ينخرط في العمل السياسي[36].

كانت اهتمامات الصدر الأعظم الجديد خارجيَّةً في الأساس، ولكيلا تنهار السياسة الداخليَّة فقد أوكل الصدرُ الأعظمُ رجلًا خاصًّا للإشراف عليها، هو قرة مصطفى الميرزيفوني باشا Merzifonlu Kara Mustafa Pasha (نسبةً إلى البلد التي وُلِدَ فيها، وهي ميرزيفون Merzifon بجوار أماسيا في الأناضول)، وهو شابٌّ في عمر فاضل أحمد باشا، وقد تربَّى معه في البيت نفسه؛ حيث احتضنه محمد كوبرولو باشا وهو طفلٌ صغيرٌ بعد وفاة والده شهيدًا في حصار بغداد عام 1639م، فربَّاه مع أولاده، وزَوَّجه لابنته؛ ولذلك يُنْسَب إلى عائلة كوبرولو[37]، وسوف يتولَّى الصدارة بعد وفاة فاضل أحمد، ولهذا يُضيف كثيرٌ من المؤرِّخين فترة صدارة قرة مصطفى (من 1676 إلى 1683م) إلى الحقبة الكوبرولية[38]. هذا التوزيع للمهام، وهذا التفويض المناسب، أعطى كلًّا منهما الفرصة للأداء الجيِّد في مهامِّه. حدثت أمورٌ كثيرةٌ مهمَّة في عهد فاضل أحمد باشا؛ منها عدَّة حروبٍ ضدَّ النمسا، والبندقية، وبولندا، كما شهد عهده بعض الأمور التي لم تَبْدُ كبيرةً في هذه المرحلة لكن كان لها آثارٌ مهمَّةٌ بعد ذلك، مثل نشأة يهود الدونمة، ومثل بداية نظام الدايات في الجزائر[39].

د. راغب السرجاني

[1] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2005., p. 281.
[2] Börekçi, Günhan: Köprülü family, In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (C)., p. 314.
[3] Tucker, Spencer C. (Editor): Middle East Conflicts from Ancient Egypt to the 21st Century: An Encyclopedia and Document Collection, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2019., vol. 2, p. 714.
[4] Watts, Tim J.: Koprulu, Mehmed Pasha (1575-1661), In: Mikaberidze, Alexander: Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011 (C).vol. 1, p. 488.
[5] إبراهيم، 1856 صفحة 187.
[6] أوزتونا، 1988 صفحة 1/500.
[7] Peirce, 1993, p. 206.
[8] Tucker, 2019, vol. 2, p. 715.
[9] Peirce, 1993, p. vii.
[10] Peirce, Leslie Penn: The Imperial Harem: Women and Sovereignty in the Ottoman Empire, Oxford University Press, New York, USA, 1993., p. 258.
[11] Setton, Kenneth Meyer: Venice, Austria and the Turks in the 17th Century, American Philosophical Society, Philadelphia, USA, 1991., pp. 186-189.
[12] Darling, 2006, vol. 3, p. 123.
[13] Tucker, 2019, vol. 2, p. 715.
[14] أوزتونا، 1988 صفحة 1/504.
[15] Tucker, 2019, vol. 2, p. 715.
[16] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/504، 505.
[17] Watts, 2011(C), vol. 1, p. 488.
[18] فريد، 1981 صفحة 292.
[19] أوزتونا، 1988 صفحة 1/553.
[20] سرهنك، 1895 صفحة 1/605.
[21] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 316.
[22] Watts, 2011(C), vol. 1, p. 488.
[23] أوزتونا، 1988 صفحة 1/505.
[24] Watts, 2011(C), vol. 1, p. 489.
[25] Kia, Mehrdad: The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2017., vol. 1, p. 85.
[26] أوزتونا، 1988 صفحة 1/501.
[27] Abou-el-Haj, 1974, pp. 438–447.
[28] Treasure, 2003, p. 513.
[29] البخاري: كتاب الأحكام، باب من سأل الإمارة وكل إليها (6728) واللفظ له، ومسلم: كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (1652).
[30] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 319.
[31] سرهنك، 1895 صفحة 1/600.
[32] Hötte, 2015, vol. 1, p. 13.
[33] Süreyya, et al.,1996, vol. 1, p. 209.
[34] أوزتونا، 1988 صفحة 1/523.
[35] Tucker, 2019, vol. 2, p. 713.
[36] Watts, 2011 (B), vol. 1, p. 485.
[37] أوزتونا، 1988 صفحة 1/523، 524.
[38] Finkel, 2006, p. 253.
[39] 1/ 771- 781.