لم يشهد العصر الحديث حتى الان تقديم أحد باباوات الفاتيكان استقالته أو التنحي عن منصبه طوعا، لذلك فقد جاءت خطوة البابا صادمة للجميع، غير أنه من الناحية النظرية، لم يحل أي شئ دون اقدام البابا بنيدكت، وكذا اي من اسلافه، من تناول ورقة من مكتبه وصياغة مسودة استقالة وتسليمها لمجمع الكرادلة، أعلى هيئة انتخابية للكنيسة الكاثوليكية. وتعد مثل هذه الاستقالة،
بموجب القانون الكنسي، سارية فقط حال صياغتها طواعية ونشرها على نحو لائق. ففي عام 2005 اعلن الفاتيكان عن سبق تفكير البابا يوحنا بولس الثاني في الاستقالة من منصبه قبل خمس سنوات من ذلك عندما بلغ سن الثمانين. وقال بحسب ارداته وشهادته انه يأمل "ان يساعده الله في معرفة كم سيمد له من العمر كي يواصل تقديم خدمته".
شهادة التاريخ
روج مؤرخون دوما تكهنات بأنه خلال الحرب العالمية الثانية كتب البابا بيوس الثاني عشر وثيقة تفيد بأنه ان كان مقدر خطفه على يد النازيين فسيفكر في تقديم الاستقالة وينبغي اختيار من يخلفه. وفي الوقت الذي أجل فيه الفاتيكان الاعلان الكامل عن وثائق تتعلق بالبابا بيوس نظرا لوجود خلاف بشأن رد فعله ازاء الهولوكوست النازي، فليس هناك من وسيلة تثبت صحة ذلك.
بالرجوع الى تاريخ أبعد نرصد آخر حالة لاستقالة أحد الباباوات ترجع لخمسة قرون، وهي للبابا غريغوري الثاني عشر الذي قدم استقالته في الفترة بين اعوام 1406 الى 1415، اذ فعل ذلك لوضع حد لما اطلق عليه بالانشقاق الغربي. وفي ذلك الوقت ظهر ثلاثة مطالبين بتولي الكرسي البابوي هما: البابا غريغوري الثاني عشر بابا كنيسة الروم الكاثوليك، والبابا بنيديكت الثالث عشر بابا افينيون، والبابا يوحنا الثالث والعشرين بابا أنتيبوب. وقبل تقديم الاستقالة عقد غريغوري مجلسا كنسية رسميا، وكلفه بانتخاب خلف له.
البابا سلستينو استقال فدقّ رأسه بمسمار
قبل 7 قرون حدث زلزال كبير في الفاتيكان، من دون ضحايا ولا تسونامي ولا أي خراب في المباني والممتلكات، لكنه ما زال إلى الآن مسبباً للحرج والحيرة في إحدى أصغر الدول وأكثرها غموضاً في العالم، وهو قيام أحد البابوات بتقديم استقالته فجأة، وهو ما لم يفعله سواه لا قبله ولا بعده، سوى من أعلنوا عن استقالته، وهو الألماني بنديكت السادس عشر.
السبب في الزلزال أن البابا، وهي كلمة مستمدة من اليونانية وتعني الأب، هو بالمفهوم الكنسي معصوم عن الخطأ، وهو أيضاً نائب المسيح وخليفة القديس بطرس ورئيس الفاتيكان وخادم سدنة الرب وبطريرك الغرب وأسقف روما، ومنصبه مقرر من المسيح سلفاً. لكن سلستينو الخامس فعلها بعد انتخابه في يوليو/تموز 1284 بحوالي 6 أشهر واستقال "لاكتشافه أمراء وعناصر كنسيين يتآمرون على حياته"، وفق رواية رسمية للفاتيكان، لم تقنع أحداً ولم تشف غضب معاصريه، أو تخفف مما ألم بهم من سخط واستغراب.
وبين الساخطين عليه هو معاصره ذلك الزمان، شاعر إيطاليا الأكبر دانتي ألليغيري، والذي وضعه بين سكان الجحيم في ملحمته "جحيم دانتي" لشدة ما اغتاظ من استقالته التي خيبت الآمال وهزت الإيمان، ودفعت به هو نفسه لأن يعيش بعد الاستقالة منعزلاً "حتى وفاته بالتهاب في منتصف 1296 وحيداً"، بحسب ما يكتبون.
لكن باحثيْن لاهوتيين، من مسقط رأسه في مدينة "كيلا" الإيطالية، اكتشفا قبل 15 سنة ما يناقض الرواية الرسمية تماماً، حين أجريا فحصاً بأشعة أكس وغيرها على جمجمة الرجل الذي تم تطويبه قديساً بعد 17 سنة من وفاته. عثروا في جمجمته على ثقب "اتضح من الاختبارات أنه من مسمار، أو ما شابه، دقه مجهول في رأسه"، وفق ما شرحه الباحثان، الأب دي ماتيس والأب كيرينو سالوموني، رئيس مركز الدراسات اللاهوتية في المدينة.
وقال الباحثان في كتاب ضخم أصدراه بعنوان "الاستقالة المزعومة"، إن سلستينو الخامس لم يعش منعزلاً في صومعة بعد استقالته "بل قتل بمسمار دقه أحدهم في جبينه وهو نائم داخل سجن انفرادي زجه فيه بونيفاسيو الثالث عشر، المسؤول الأول عن الاستقالة". ولم يكن بونيفاسيو الثالث عشر سوى من انتخبوه خليفة للبابا المستقيل، والشهير بنظرية غريبة تقول إن منصب البابوية هو "قوة كونية منذ الأزل"، وإن من يمس أملاك الكنيسة "يجب تدميره على الأرض، كما في السماء" كما قال.
ولأنه كان من أصحاب هذا الاعتقاد اقتحمت بلدة "أنياني" الإيطالية قوة من الجيش الفرنسي حين كان هناك، وزجته في السجن 3 أيام، ومن بعدها نقلوه إلى سجن في روما، ووراء قضبان زنزانة انفرادية مات بعمر 86 سنة منذ 7 قرون، ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم لم يحمل أي بابا اسم سلستينو أبداً، ومن الصعب أن يحمله أي بابا في المستقبل أيضاً.