نبيل مع الأطفال في الفضاء الثقافي
وأنت تسير وسط منطقة الجيارة بسيدي حسين (أحد الأحياء الشعبية المتاخمة للعاصمة تونس) يلفت انتباهك صوت موسيقى وضحكات أطفال تملأ الأرجاء، تنبعث من مبنى متواضع زُين بألوان مختلفة وديكور بسيط، بعد أن كان مهجورا تملؤه الأوساخ وقوارير الكحول.
نبيل عيساوي شاب ثلاثيني ابن المنطقة، دفعه حسه الفني وروحه المرحة المحبة للحياة إلى بعث الحياة لذلك المكان المنسي في حيّه، فيحوله إلى فضاء ثقافي بعد أن كان يفتقر لأبسط مقومات التنمية والترفيه، ولم يحظ "بنظرة ود" من وزارة الثقافة.
قرر نبيل وثلة من أبناء منطقة الجيارة التعويل على أنفسهم، وتغيير واقع منطقتهم، بعد أن سئموا وعود السلطات المعنية، وطال انتظار تحقيقها، رغم قلة ذات اليد، لكنهم عقدوا العزم وآمنوا أن في التعاون قوة، وأن يد الله مع الجماعة.
فكرة وتنفيذ
ظل المكان مهجورا سنوات، وهو على ملك الدولة التونسية، واتخذه البعض مصبا للفضلات، وخربت جدرانه، بل تداعى جزء منها وآل للسقوط. يقول نبيل للجزيرة نت "كان المكان مخيفا ومتسخا ولا حياة فيه، فقد كان معقلا لتعاطي المخدرات".
استغل الشاب خبرته في مجال الثقافة -فهو يعمل مدربا للرقص ويرأس جمعية المنصة الفنية للثقافة والفنون- في عمل تطوعي يفيد أبناء منطقته، الذين لم يجدوا ملجأ للترفيه عن أنفسهم ولا صقل مواهبهم وملء فراغهم في حيهم المهمش، رغم القرب من العاصمة التونسية.
لاقت فكرة نبيل استحسان سكان الحي، ووجد تشجيعا غير مسبوق منهم. يقول إن كل فرد منهم جاد بما لديه؛ فبعضهم أسهم بلوحات وقطع فنية، وآخرون بآلات موسيقية وأدوات مدرسية، وهناك من تكفلوا بعملية التنظيف والترميم والدهان.
واجهة "الفضاء الثقافي" بعد تطويره بإمكانات بسيطة
وفي غضون أسابيع أصبح جزء من المكان جاهزا تقريبا، رغم الإمكانات المادية البسيطة، ورغم العراقيل التي اعترضت صاحب الفكرة في البداية؛ فقد اتهموه باستغلال فضاء عمومي، وهُدد بغلقه مرات عدة، لكنه لم يستسلم وتمسك بحلمه الصغير، وهو في تفاوض مع السلطات المعنية التي "أبدت استحسانا مطمئنا"، حسب تعبيره.
الثقافة حياة
انتظر أطفال وشباب الحي افتتاح الفضاء الثقافي بفارغ الصبر، فهو بمثابة مولود جديد سيضفي حيوية وحياة أخرى على حيّهم المتواضع، وباتوا يزورون المكان بشكل دوري، إلى أن اكتمل جزء منه فلم ينتظروا اكتمال البقية وبدؤوا ممارسة هواياتهم المختلفة بحماس منقطع النظير.
يقول إبراهيم (9 سنوات) "أتيت مع أصدقائي لنتدرب على المسرح، هوايتنا المفضلة التي لم نكن نجد أين نمارسها في السابق، لكن بفضل الأخ نبيل وأبناء الحي أتيحت لنا فرصة تحقيق حلمنا بأن نصقل موهبتنا ونصبح ممثلين بارعين".
ورغم قلة الإمكانات فإن اليأس لم يعرف طريقا إلى رواد الفضاء الثقافي، فملامح السعادة وابتسامة الأمل لم تفارق وجوههم، وما أبلغ دلالات تلك الملامح التي تخفي وراءها خيبات من مسؤولين باتت الثقافة تتذيل حتى وعودهم الانتخابية الزائفة.
الفضاء الجديد صار متنفس أطفال المنطقة في أوقات فراغهم
خيبات لخصها عزيز (16 عاما) في كلمات أغاني راب نظمها بنفسه، وسنحت له الفرصة بأدائها في الفضاء الثقافي الجديد في حيّه، وإيصال ما يختلج في صدر شاب في عمره إلى أبناء منطقته، فهم جمهوره الصغير الذي يشجعه في كل مرة ويدفعه نحو المواصلة.
تختلف مواهبهم وأنشطتهم الثقافية والفكرية، لكن حب الحياة والتعلم والثقافة يجمعهم رغم صغر سنهم، فهم يشجعون كل فرد منهم على حدة، ويدفعونه نحو إبراز موهبته، فقد صفقوا لصديقهم أحمد (14 عاما) الذي كان خجولا في البداية، إلى أن أقنعوه بأداء رقصة "الهيب هوب" التي يحبها، وكان لهم ذلك.
ربما يبدو افتتاح هذا الفضاء الثقافي أمرا عاديا في ظاهره، لكنه يخفي في باطنه تمردا على الواقع الجغرافي والتاريخي، الذي بُني منذ حقبة الاستعمار على ثنائية الهامش والمركز، التي يقتضي تفكيكها وعيا مبدئيا بأن الفكرة هي الأصل في كل شيء.