دور الفترة (1402- 1413م)
ترك بايزيد الأول بعد أسره ثم وفاته خمسةً من الأبناء، وكانوا للأسف جميعًا متصارعين على الحكم، وكان لكلِّ واحدٍ منهم أتباعٌ ومؤيِّدون، ومِنْ ثَمَّ صارت الوحدة بينهم وهمًا لا يمكن تحقيقه، ودخلت الدولة في واحدةٍ من أسوأ أزماتها التاريخيَّة، وهي المعروفة بعهد «الفترة» Interregnum.
كان من الممكن في الحقيقة أن تكون هذه الفترة هي خاتمة قصة الدولة العثمانية، فكم من الدول عاشت مائة سنة ثم اندثرت وقامت غيرها، غير أن الله أراد أن تكون هذه الفترة الضعيفة في حياة الدولة العثمانية فترةً محدودة، وكتب لها الحياة بعد انقضائها؛ بل كتب لها طول العمر؛ إذ استمرَّت الدولة العثمانية أكثر من خمسة قرون بعد كارثة أنقرة، مع أن كلَّ الناظرين إلى الأحداث آنذاك كانوا يتوقعون نهايةً كاملةً لها. أحد أسباب هذا البقاء للدولة هو أن أطماع تيمور لنك لم تكن أناضوليَّة ولا أوروبية؛ بل كان حلمه الأكبر هو حكم الصين والشرق؛ لذلك فإن تيمور لنك لم يبقَ في الأناضول بعد معركة أنقرة إلا ثمانية أشهر فقط؛ حيث غادر الأناضول إلى الصين في مارس 1403م[1]، وكان همُّه الأكبر عند ترك الأناضول أن يُبْقِي عليه متفرِّقًا دون أن يسعى سعيًا حثيثًا إلى إنهاء وجود الدولة العثمانية، فأعاد أمراء الأتراك إلى إماراتهم، فانفصلت بذلك إمارات آيدن، ومنتشه، وصاروخان، وقرمان، وكرميان عن الدولة العثمانية[2]،بل قَبِل تيمور لنك أن يُعطي بعض أولاد بايزيد الأول بعض الأملاك في الأناضول على أن يكونوا أتباعًا له[3]، وبذلك يضمن دائمًا وجود صراعاتٍ داخليَّةٍ في الأناضول تُضعفه على الدوام، وهذا يجعل السيطرة الحقيقية لتيمور لنك دون أن يكون له جند بالمنطقة! ثم كان من فضل الله على الدولة العثمانية أن مات تيمور لنك بعد ذلك بعامين؛ أي في فبراير عام 1405م[4]، وهذا أمَّن الدولة العثمانية من خطر الدولة التيمورية إلى حدٍّ كبير؛ إذ لم يكن أبناء تيمور لنك على مستواه العسكري نفسه، كما أنهم كانوا أقلَّ منه عنفًا، وأقرب إلى الحكمة منهم إلى البطش والإرهاب، ولعل هذه الظروف الهادئة، والتي كانت سببًا في استمرار الدولة العثمانية، كانت بسبب صدق النوايا، وطيب السيرة، للآباء والأسلاف من العثمانيين، بدايةً من أرطغرل، ثم عثمان، ومرورًا بأورخان، ومراد الأول، وانتهاءً بالفترة الأولى من حياة بايزيد الأول، وهذا على نسق ما قاله الله تعالى في سورة الكهف ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾!
ترك بايزيد الأول خمسة أبناء هم: سليمان، وهو الأكبر، وكان يبلغ من العمر عند كارثة أنقرة 27 سنة، ثم عيسى (24 سنة)، ثم مصطفى (22 سنة) ثم محمد (20 سنة)، وأخيرًا موسى (14 سنة) [5]. ولقد دار صراعٌ معقَّدٌ للغاية بين كلِّ هؤلاء الأخوة؛ بل تعاون بعضهم مع أعداء الدولة لكي يتمكنوا من السيطرة على الأوضاع، فكانت فترةً مؤلمةً في حياة العثمانيين.
هرب سليمان -الابن الأكبر- من جيوش تيمور لنك إلى أوروبا، واستقرَّ بإدرنة العاصمة العثمانية، وقام ببعض التدابير التي تكفل له السيطرة على الأوضاع في أوروبا، وكان من هذه التدابير أن عقد صلحًا مع الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني، وأعطاه بموجب هذا الصلح بعض البقاع المهمَّة التي كانت في حوزة العثمانيِّين؛ وذلك على سواحل البحر الأسود، وبحر مرمرة، كما أعاد إليه سالونيك والمورة، وبذلك أَمِن جانب البيزنطيين، ولتأمين هذا الصلح تزوَّج سليمان من إحدى قريبات الإمبراطور، وتذكر بعض المصادر أنه أرسل ابنه وأخته رهينتين لدى الإمبراطور البيزنطي[6]! أعلن سليمان نفسه سلطانًا على أملاك الدولة العثمانية في أوروبا[7]، وما لبث أن راسل تيمور لنك، وأعلن الولاء له في مقابل جزيةٍ يدفعها إليه[8]، وقبل بذلك تيمور لنك؛ حيث لم تكن له؛ كما ذكرنا أطماعٌ في الجانب الأوروبي من العالم، كما أنه لم يكن يُريد تشتيت قوَّاته بين أوروبا والصين.
راودت الأطماع الأمراء الأوروبيين في الخروج من سيطرة الدولة العثمانية بعد هذه الكارثة؛ لكن يبدو أن آثار موقعة نيكوبوليس ما زالت راسخةً في أذهانهم، فلم يُفكِّروا في الانقلاب الفعلي على العثمانيين، وبذلك استقرَّت الأمور لسليمان في الجانب الأوروبي من الدولة العثمانية.
أمَّا في جانب الأناضول فكان الوضع مضطربًا! لقد أراد تيمور لنك أن يبقى الصراعات دائرة في هذه المنطقة القريبة من أملاكه، فلم يُنهِ الوجود العثماني؛ بل على العكس قَبِل بسيادة عيسى -الابن الثاني لبايزيد الأول- على مدينة بورصا وغرب الأناضول، وقبل بسيادة محمد -الابن الرابع لبايزيد الأول- على مدينة أماسيا وما حولها من وسط الأناضول[9]، وبذلك يضمن تيمور لنك أن يستمرَّ التنافس بين الأمراء الأتراك وأبناء بايزيد؛ بل قد يتطوَّر الأمر إلى صراعٍ بين الأخوين عيسى ومحمد على الأملاك العثمانية في الأناضول، وهو ما حدث بالفعل! أمَّا الابن الثالث لبايزيد الأول، وهو مصطفى؛ فقد أخذه تيمور لنك معه أسيرًا إلى سمرقند[10]، وأخيرًا كان الابن الخامس موسى صغيرًا (14سنة)، فانضمَّ إلى أخيه محمد في أماسيا[11].
نشب الصراع فورًا بين عيسى في بورصا، ومحمد في أماسيا، وأعلن عيسى نفسه سلطانًا للدولة العثمانية[12]، وهذا أغضب أخاه سليمان، والذي مرَّ بنا أنه أعلن نفسه سلطانًا في إدرنة بأوروبا، وهكذا ظهرت ثلاثة أقطاب متصارعة؛ عيسى، ومحمد، وسليمان. انتهى الأمر بقتل عيسى على يد جيوش محمد؛ ومع ذلك تمكَّن سليمان من السيطرة على غرب الأناضول ومدينة بورصا، ممَّا جعل الصراع يحتدم بينه ومحمد في أماسيا[13].
استمرَّ الصراع بين الأخوين محمد وسليمان حتى عام 1410م، وعندها أرسل محمد أخاه موسى الأصغر، (22 سنة آنذاك)، إلى أوروبا لمحاربة الأخ الأكبر سليمان، لكي يُوحِّد محمد الدولة كلَّها تحت رايته، وفي هذه الأثناء كانت بعض الإمارات الأناضولية، مثل آيدن وذي القادر، قد انضوت تحت لواء محمد[14].
للأسف دار صراعٌ عسكريٌّ بين الأخوين موسى وسليمان في أوروبا، وانضمَّت صربيا في هذا الصراع إلى سليمان[15]، وكان من نتيجة هذا الصراع المخزي أن قُتِل سليمان في الثامن عشر من مايو 1410[16]، وبعد هذا كانت المفاجأة الأشد هي أن أعلن موسى نفسه سلطانًا مستقلًّا بأوروبا العثمانية[17]، ومنفصلًا بذلك عن أخيه محمد الذي أرسله لحرب أخيهم سليمان! هكذا تكون الأمور عندما تكون الدنيا هي العامل الوحيد في الحرب، فلا دين يهدي، ولا أخلاق تردع، ولا أواصر أخوَّة أو رَحِم تُلطِّف أو تُهدِّئ!
صار الصدام الآن بين محمد ومقره الأناضول، وموسى ومقره إدرنة بأوروبا، وقد استمرَّ الصراع بينهما ثلاثة أعوام، وقد انتهى للأسف بموقعةٍ عسكريَّةٍ حقيقيَّةٍ بين الأخوين قرب ساموكوڤ Samokov ببلغاريا؛ وذلك في عام 1413م، وكانت نتيجة المعركة لصالح محمد بن بايزيد، وقُتِل موسى[18]، ولم يبقَ أحدٌ يُنازعه على العرش منذ ذلك الحين، فعادت الأملاك العثمانية في الأناضول وأوروبا كلها تحت يده مرَّةً أخرى، وبذلك انتهى دور الفترة ليبدأ حكم محمد بن بايزيد الأول، وهو المعروف بمحمد الأول.
كانت مساحة الأراضي التي بقيت في يد محمد الأول بعد انتهاء دور الفترة تبلغ حوالي 694 ألف كيلو متر[19]، وهي أقلُّ بحوالي 246 ألف كيلو متر عن مساحتها قبيل موقعة أنقرة؛ وذلك بسبب استقلال بعض الإمارات التركيَّة في الأناضول، وأهمها إمارة قرمان، كما كان النقص كذلك بسبب فقدان بعض الأراضي في أوروبا بعد أن تنازل عنها سليمان للإمبراطور البيزنطي عقب كارثة أنقرة؛ ومع ذلك فهذا النقص لم يكن مانعًا للدولة العثمانية من إكمال المسيرة؛ إذ إن المتبقِّي في حوزتها صار موحَّدًا تحت قيادة محمد الأول ممَّا أعطاها روحًا جديدةً مكنتها من البقاء قويَّة.
موقعة أنقرة كانت كارثةً على الدولة العثمانيَّة، لكنَّها لم تكن كارثةً ماحقة؛ بل على العكس، يمكن أن يُقال: إنها كانت لافتةً لأنظار العثمانيِّين إلى الخلل الذي أصاب الدولة، وكانت كاشفةً لأخطاء الفتنة في الدنيا، والصراع بين المسلمين، وآثار الذنوب، وكانت مؤدِّيةً إلى الصراع المرير الذي دار بين الأخوة لمدَّة أحد عشر عامًا، وكلُّ هذا لفت أنظار العقلاء إلى آثار هذه الأخطاء والمعاصي، فكانت درسًا عميقًا أفاد الدولة لعدَّة قرونٍ قادمة، وستظلُّ الدولة بعد ذلك قويَّةً طالما أنها تتذكر هذه الأحداث، ويوم تنسى الدولة نتائج معركة أنقرة، ستتكرَّر الكوارث؛ وذلك لأنَّ سُنَّة الله لا تبديل لها ولا خلف. قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 23][20].
[1] Shaw, Stanford Jay: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Volume I, Cambridge University Press, New York, USA, 1976., vol. 1, p. 36.
[2] ابن عربشاه، أبو محمد أحمد بن محمد: عجائب المقدور في أخبار تيمور، كلكتا، الهند، 1817م. الصفحات 281، 282.
[3] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/112.
[4] Egger, Vernon O.: A History of the Muslim World to 1405: The Making of a Civilization, Routledge, 2016., p. 287.
[5] أوزتونا، 1988 صفحة 1/112.
[6] Egger, Vernon O.: A History of the Muslim World to 1405: The Making of a Civilization, Routledge, 2016., vol. 2, p. 125.
[7] محمود، سيد محمد السيد: تاريخ الدولة العثمانية (النشأة - الازدهار) وفق المصادر العثمانية المعاصرة والدراسات التركية الحديثة، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1428هـ=2007م. صفحة 133.
[8] فاتان، نيقولا: صعود العثمانيين 1362-1451م، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م. صفحة 1/77.
[9] Kastritsis, Dimitris J.: The Sons of Bayezid: Empire Building and Representation in the Ottoman Civil War of 1402-1413, Brill, Leiden, The Netherlands, 2007., p. 73.
[10] أوزتونا، 1988 صفحة 1/111.
[11] أوزتونا، 1988 صفحة 1/114.
[12] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 148.
[13] Kastritsis, 2007, pp. 109-112.
[14] أوزتونا، 1988 صفحة 1/115.
[15] Kissling, Hans Joachim: The Ottoman Empire to 1774, In: Kissling, Hans Joachim; Bagley, F. R. C.; Spuler, Bertold; Barbour, N.; Trimingham, J. S.; Braun, H. & Hartel, H.: The Muslim world, A Historical Survey: The Last Great Muslim Empires, translated: F. R. C. Bagley, Brill, Leiden, The Netherlands, 1969., vol. 3, p. 14.
[16] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2006., p. 32.
[17] فريد، 1981 الصفحات 147، 148.
[18] Nicol, Donald MacGillivray: The last centuries of Byzantium, 1261–1453, Cambridge University Press, UK, 1972., p. 327.
[19] أوزتونا، 1988 صفحة 1/115.
[20] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 164- 169.