تسلَّم مراد الأوَّل Murad I الحكم وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وحكم الدولة العثمانيَّة مدَّة سبعٍ وعشرين سنة، من سنة 1362م إلى سنة 1389م[1][2]. ونحن عندما نتكلَّم عن مراد الأوَّل فنحن نتكلَّم عن شخصيَّةٍ استثنائيَّة، ليس في التاريخ العثماني فقط، وليس في التاريخ الإسلامي فقط؛ إنَّما في التاريخ الإنساني كلِّه، وليست هذه مبالغة؛ فهو فاتحٌ إسلاميٌّ من الطراز الأوَّل، وهو من الأمثلة النادرة في التاريخ الذي استطاع أن يفتح بنفسه عدَّة دولٍ دفعةً واحدة؛ فهو الذي أدخل العثمانيِّين إلى بلغاريا، واليونان، وصربيا، وألبانيا، ومقدونيا، وكوسوڤو، مع حرصه في كلِّ ذلك على الالتزام بالخلق الإسلامي الرفيع في كلِّ معركةٍ أو عهد.

كانت أبرز سمات مراد الأوَّل صفتين: العدل والجهاد، وهذا ما سجَّله ابن حجر العسقلاني باختصار حين قال: «ونشر العدل في بلاده، ولم يزل مجاهدًا في الكفرة حتى اتَّسع ملكه»[3]. العدل هو السمة الأولى التي ينبغي أن يتَّصف بها الحاكم؛ لذلك عندما أراد رسول الله ﷺ أن يمدح الحاكم الذي نجح في مهمَّته في الدنيا قال في شأن السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظِلَّ إلَّا ظله: «إِمَامٌ عَدْلٌ»[4]. أمَّا سمة مراد الأول الثانية فكانت الجهاد في موضعه، وبأخلاق الإسلام الرفيعة التي لا تعرف الغدر أو الخيانة.

قال المؤرِّخ النيوزيلندي ألكسندر چيليسبي Alexander Gillespie وهو يصف هذا القائد الفريد: «في كلِّ نقطةٍ كانت معاملة مراد الأول للنصارى بتسامحٍ على النقيض تمامًا من تعامل الكاثوليك والأرثوذكس مع بعضهم البعض؛ لقد كان يضمن لهم إذا دفعوا الجزية ألَّا يكون هناك أيُّ اضطهادٍ في المعاملة، ولا إكراه أبدًا على اعتناق الإسلام»[5]. من المعروف أنَّ الكاثوليك الغربيِّين احتلُّوا القسطنطينيَّة الأرثوذوكسيَّة سبعةً وخمسين عامًا من سنة 1204م إلى سنة 1261م، أذاقوا فيها الشعوب الأرثوذوكسيَّة ألوان الظلم والهوان[6][7]، فهنا يعقد المؤرِّخ النيوزلندي النصراني مقارنةً بين مراد الأوَّل الحاكم المسلم وبين الحكَّام النصارى الغربيِّين، فيُرجِّح كفَّة مراد الأوَّل، ليس في الجانب العسكري والقيادي فقط؛ ولكن في الجانب الأخلاقي والحضاري كذلك، وهذه شهادةٌ كبرى في حقِّ المجاهد العظيم مراد الأوَّل.

تسلَّم مراد الأوَّل دولةً حجمها 95 ألف كم2، وبعد سبعةٍ وعشرين عامًا من الجهاد المشروع وصلت دولته إلى مساحة 500 ألف كم2[8]! أي تضاعفت الدولة أكثر من خمس مرَّات في سنوات حكمه! كلُّ ذلك دون أن يظلم، أو يخون، أو يغدر. وهذا الفصل من الكتاب يشرح باختصار خطوات مراد الأوَّل الرائعة في توسيع رقعة دولته إلى هذه المساحات الشاسعة؛ والحق أنَّ مرادًا الأوَّل اشتهر بأنَّ خطواته كانت مدروسةً تمامًا، وكان يتعامل برؤيةٍ استراتيجيَّةٍ على أعلى مستوى، ويُقدِّر بعناية موازين القوى، ويفهم جغرافيَّة الأناضول والبلقان وتاريخهما، وهذا كله كان يقود إلى خطواتٍ متأنِّيةٍ تمامًا في أحيان، ومتسارعةٍ نشطةٍ في أحيانٍ أخرى، وكلُّ ذلك راجعٌ إلى دراسةٍ هادئةٍ للمواقف المختلفة.

لم يُفكِّر مراد الأول قط في حرب جيرانه المسلمين في الأناضول، مع أنَّ قوَّته كانت تفوق قوَّتهم بكثير؛ بل كان يسعى دومًا إلى التهدئة عند اضطراب العلاقات، وإلى العفو والصفح عند خطأ الآخرين في حقِّه، وكان حريصًا على جمع كلمة المسلمين بشكلٍ لافتٍ للنظر، ولم يكن يصرف جهاده إلا في حرب مَنْ حارب الدولة العثمانية ابتداءً؛ وهؤلاء في زمن مراد الأول كانوا يشملون البيزنطيين، والصرب، ومَنْ ساعدهما[9].


[1] كولن، 2014 صفحة 18.
[2] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 الصفحات 68، 69.
[3] ابن حجر العسقلاني، 1969 صفحة 1/485.
[4] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب مَنْ جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (629) عن أبي هريرة t، ومسلم: كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (1031).
[5] Gillespie, Alexander: The Causes of War, Bloomsbury Publishing, 2016., vol. 2, pp. 220-221.
[6] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م. الصفحات 15/50-52.
[7] عبيد، إسحق: الدولة البيزنطية في عصر باليولوغوس 1261-1282، منشورات جامعة بنغازي، ليبيا، (دون سنة طبع). صفحة 15.
[8] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988، صفحة 1/101.
[9] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 95- 97.