تعتبر باريس ساحة ثقافية مرموقة وكنزا حقيقيا لأشهر المتاحف، وهذه المرة سيحملنا الفضول وعشق الأدب إلى التعرف عن قرب على أونوريه دو بلزاك، وهو كاتب وروائي من أهم رواد الأدب الفرنسي في القرن الـ19 في الفترة التي تلت سقوط نابليون من خلال زيارة منزله الواقع في الدائرة الـ16 بالعاصمة الفرنسية.
وتتمثل أهمية هذا المنزل في كونه المكان الوحيد المتبقي من المساكن المختلفة التي سكنها بلزاك طوال حياته، يقع في زاوية هادئة من حي باريسي يعتبر اليوم واحدا من أفخم الأحياء، أسفل درج حجري شديد الانحدار يطل على برج إيفل.
سكن بلزاك هذا المنزل تحت اسم مستعار في أربعينيات القرن الـ19 للهروب من ديونه التي كانت تتراكم بشكل كبير، ولا تزال غرفة الكتابة الخاصة به كما هي شاهدة على ساعات عمله الطويلة التي كانت تصل إلى 18 ساعة يوميا، بالإضافة إلى عدد من الرسائل والصور التي توثق حياة الكاتب الشخصية ومسيرته المهنية.
غزارة الإنتاج
ولد بلزاك في مدينة تور الفرنسية في عام 1799 وتوفي في باريس عام 1850، كان كاتبا غزير الإنتاج وتناول في أعماله أنواعا مختلفة، مثل الفلسفة والشعرية وحتى السياسة.
وتعتبر روايتا "الأب غوريو"، و"أوجيني غراندي" من أشهر رواياته الواقعية والنفسية التي شكلت جزءا مهما جدا من مسيرته المهنية وصنفته في الفئة الواقعية للرواية.
والواقعية هي حركة فنية حديثة ظهرت في أوروبا في النصف الثاني من القرن الـ19، خاصة في إيطاليا وألمانيا، وتعرضت للانتقاد والهجوم من قبل حركة "نوفو رومان" أو الرواية الجديدة التي كانت تحاول تغيير التركيز من روايات الأخلاق الاجتماعية نحو العالم الخارجي.
وقد ولدت الواقعية من الحاجة إلى الرد على العاطفية والرومانسية والكليشيهات لتصوير الواقع كما هو، من دون مثالية كاذبة أو مصطنعة واختيار مواضيع تصور حياة الطبقة المتوسطة أو الطبقة العاملة، ومعالجة مواضيع مثل العمل بأجر أو العلاقات الزوجية والصدامات الاجتماعية، وبالتالي، فإن هذه الحركة تعارضت بشكل كبير مع الرومانسية والكلاسيكية التي سيطرت على النصف الأول من القرن.
الكوميديا الإنسانية.. مستودع للعواطف
تعكس السلسلة الروائية "الكوميديا الإنسانية" الصورة الحقيقية للمجتمع الفرنسي، إذ تشرح التكوين الاجتماعي وتشابكات العلاقات الإنسانية، وهي تغطي الفترة بين 1789 و1850.
وصدرت في 37 مجلدا، وضمت 95 رواية وقصصا قصيرة ومقالات واقعية أو فلسفية، بالإضافة إلى حكايات أخرى و25 عملا مرسوما، مثل "الكولونيل شابيه"، و"الفتاة ذات العينين الذهبيتين"، و"سارازين" وغيرها، واعتبرت السبب الرئيسي وراء شهرة بلزاك ليصبح بعد نشرها نجم الكتابة في فرنسا والعالم.
صنف بلزاك النصوص في 3 مجموعات عامة ومتسلسلة حسب الخلفية الاجتماعية والموقع الجغرافي والفئات النفسية، وامتدت كتابته لهذه المجموعة من عام 1829 إلى 1850، لكنه لم يستطع استكمالها وأنجزها تشارلز رابو بعد وفاته.
جانب من منزل بلزاك
وتعد دراسة الأخلاق الأهم من بينها، فهي مقسمة إلى 6 مجموعات من الروايات ومصنفة كمشاهد من الحياة الخاصة والحياة الإقليمية ومن الحياة الباريسية والسياسية، ومشاهد من الحياة العسكرية ومن حياة البلد، فيما سعت الدراسات الفلسفية إلى التعرف على أسباب تقلبات الحياة الاجتماعية، ولا سيما الطاقة الكونية التي يعبر عنها الإنسان من خلال الفكر.
ولم يكن الهدف من كتابة الكوميديا الإنسانية يقتصر في الحقيقة على فهم الحياة اليومية والحقائق الاجتماعية وتقديم نسخة بسيطة من الواقع فقط، بل كانت تهدف كذلك إلى رسم جميع هذه الظواهر للاستفادة من قصصها وتجنب أخطائها، كما دافع بلزاك من خلالها عن قيم معينة مثل الكاثوليكية التي حسب قوله "قادرة على كبح ميول الإنسان المنحرفة"، أو الملكية التي يعتبرها النظام الوحيد القادر على قيادة الجماهير الشعبية.
لكن بعض الفجوات ظهرت في هذا العمل الفلسفي والسلوكي، ففي الدراسات التحليلية رصد الكاتب فسيولوجيا الزواج وبؤس الحياة الزوجية فقط، وتحتوي مشاهد الحياة العسكرية على قصتين فقط، فيما توقع بلزاك كتابة 25، ويمكن ملاحظة أن الحياة الريفية بالكاد تم تصويرها في "لي بايزون"، في حين شكل الفلاحون الجزء الأكبر من السكان الفرنسيين في القرن الـ19.
شخصيات وحكايات
يعتبر المؤلف الفرنسي من أعظم مدمني العمل الأدبي في فرنسا، وأنتج في حياته القصيرة نسبيا أكثر من 90 رواية و137 قصة، بالإضافة إلى عدد من الروايات التي نشرت باسم مستعار، وتحتوي الكوميديا الإنسانية وحدها على 2209 شخصيات، لكل واحدة منها تصور وسلوك وطبائع بشرية مختلفة.
وقد قيل إنه ذات مرة كتب لمدة 48 ساعة متواصلة نام خلالها 3 ساعات فقط، وقد عرف بتبنيه أنماط نوم غريبة، خاصة عمله لفترات طويلة بالليل، فقد كان يكتب ويعيد قراءة عبارة أو جملة معينة عدة مرات حتى تصبح مثالية.
ويمكن القول إن عبقرية أونورويه دو بلزاك في الكتابة تعود إلى نهجه تقنية "عودة الشخصيات"، وهي طريقة ذكية وصعبة في آن واحد معا لتحرير الذات من الرواية، فيمكن أن تظهر شخصية كانت رئيسية وبطلة قصتها في رواية أخرى كشخصية ثانوية، وهي طريقة في الكتابة جريئة جدا وتعطي الحياة والحركة لعالم خيالي كامل، ربما تظل شخصياته موجودة للأبد.