يقول علماء آثار إن الأهرامات بناها نخبة مميزة من العمال في حين يرى باحثون تاريخيون أن العبودية والسخرة كانتا وراء البناء العظيم



الكشف عن مقابر للعمال عند سفح الأهرامات يعني أن موتاهم دفنوا في مواقع مميزة (بيكسابي)


أذهلت أهرامات الجيزة الباحثين قرونا عديدة بحجمها الكبير وتناظرها وحتى فراغاتها الغامضة وغرفها المخيفة، وتمحور اللغز المحير حول تقنيات البناء التي استخدمها المصريون القدماء لإقامة هذه البنايات المتناسقة الرائعة من دون تكنولوجيا حديثة، وكذلك من بناها على وجه التحديد، وهل بنيت من قبل نخبة عمالية تمتعت بامتيازات خاصة أم بنيت بالسخرة والاستعباد؟
هناك العديد من النظريات عن بناء الأهرامات الفرعونية، أشدّها غرابة تلك التي تفترض أن كائنات فضائية و"زواحف بشرية" شيّدت هذه الهياكل العملاقة. أما النظرية الأكثر انتشارا فهي التي تؤكد أن العبيد هم بناة الأهرامات، وهي نظرية قد تكون مستمدة من نصوص دينية قديمة، لكن رسختها أفلام المخرج الأميركي سيسيل ديميل قبل حوالي قرن من الزمان. لكن ماذا يقول علماء الآثار؟


أصدقاء خوفو

في تقرير نشره موقع "أوبن كلتشر" (Open Culture) الأميركي، يقول الكاتب جوش جونز إن أدلة أثرية وعلمية جديدة تدحض كل تلك النظريات، وتؤكد أن من شيّد الأهرامات نخبة من عمال البناء الذين تمتعوا بامتيازات عالية من طعام وسكن خلال فترة العمل.
وكتب جوناثان شو في مجلة هارفارد (Harvard Magazine) أن العديد من علماء المصريات -ومنهم عالم الآثار مارك لينر الذي نقّب عن آثار مدينة العمال في الجيزة- يؤيدون الفرضية القائلة بأن الأهرامات قد بنيت بواسطة قوة عاملة تناوبت على أداء المهام في شكل وحدات وفرق. وقد عُثر على كتابات جدارية في موقع التنقيب تدل على أسماء تلك الفرق، مثل "أصدقاء خوفو" و"سكارى منقرع".
ويؤكد لينر أن التنقيب كشف عن "كميات هائلة من عظام الماشية والأغنام والماعز التي تكفي لإطعام عدة آلاف من الأشخاص.. مما يشير إلى أن العمال تم إطعامهم مثل الملوك"، لكن هناك آراء أخرى تنفي ذلك.
كما كشفت عمليات التنقيب التي أشرف عليها عالم الآثار المصري الشهير زاهي حواس عام 2010، عن مقابر للعمال عند سفح الأهرامات، ترجع إلى الأسرة الرابعة (نحو 2494-2613 قبل الميلاد)، مما يعني أن موتاهم دفنوا في مواقع مميزة، حيث كان بناء الأهرامات عملا محفوفًا بالمخاطر، لذلك فقد تم تكريم العمال من خلال دفنهم بجانبها.
ويرى لينر أن العمال قاموا بتلك المهمة باعتبارها جزءا من واجباتهم بوصفهم مصريين تجاه من يفوقهم مرتبة، وصولا إلى فرعون. ورغم أنهم لم يحصلوا على المال مقابل تشييد الأهرامات، فإن ذلك لا يعني أنهم كانوا من العبيد، بل إن عملهم كان نوعا من الالتزام الإقطاعي، على حد تعبيره.

تقنيات البناء وأساليب نقل الحجارة

وحسب الكاتب، فإن هذه الاكتشافات الأثرية الحديثة تدحض النظريات السابقة، مثل نظرية الكائنات الفضائية، التي تفترض أن المصريين القدامى لم يمتلكوا المعرفة والمهارة لبناء مثل هذه الهياكل العملاقة قبل أكثر من 4 آلاف عام.
ويُظهر مقطع فيديو على قناة "فيريتاسيوم" (Veritasium) على يوتيوب (YouTube) كيف كان العمّال ينقلون الحجارة دون عجلات، وينقلون الغرانيت من مكان يبعد عن الأهرامات حوالي ألف كيلومتر. وقد كان بإمكان المصريين القدامى رسم الاتجاهات الأربعة قبل ظهور البوصلة، وكانوا يتقنون رسم الزوايا، وهو ما يدل على أنهم كانوا يمتلكون التقنيات اللازمة لتصميم الأهرامات.

ويقول الباحث جو هانسون على قناته بموقع يوتيوب إن بناء الهرم الأكبر المكون من مليوني كتلة من الحجر الجيري الأصفر، تطلب قوة عاملة ماهرة حفرت ما يعادل "حوض سباحة أولمبيا من الأحجار كل 8 أيام" لمدة 23 عامًا لإتمام بناء الهرم، وقد فعلوا ذلك باستخدام المعدن الوحيد المتاح لهم، وهو النحاس.
وقد أظهرت التجارب الحديثة أنه يمكن استخراج هذه الكمية من الحجارة ونقلها باستخدام التكنولوجيا المتاحة حينها، بواسطة فريق يتراوح تعداده بين 1200 و1500 عامل، وهو عدد يقارب عدد الأشخاص الذين يعتقد علماء الآثار أنهم كانوا في الموقع خلال تلك الفترة.
وبالنسبة لنقل الحجارة، يعتقد علماء المصريات من جامعة ليفربول أن المصريين القدامى استخدموا منحدرات وسلالم من أجل رفع تلك الكتل الضخمة التي شيدوا بها الأهرامات.
اقتصاد بناء الأهرامات
في الأزمنة القديمة لم يكن البقاء على قيد الحياة مشكلة للصيادين والمزارعين، فجمع المحاصيل في يوم واحد بواسطة امرأة واحدة قد يكفي أسرة لثلاثة أيام، بحسب المؤرخ الأميركي مارشال ساهلينز.
وفي المملكة المصرية القديمة، وهي الأسر الأربع التي حكمت من 2780 قبل الميلاد إلى 2263 ق.م، كان الاقتصاد المصري زراعيا في الأساس، ويعتمد على فيضان النيل وزراعة الأراضي الخصبة في الوادي التي يمدها النيل بالماء والطمي، ويسهّل نقل المحاصيل والسلع أيضا، لكن تكدس هذه الثروات لم يكن مستخدما في رفاهية السكان بل في تشييد المقابر الملكية.
فالنظام الاقتصادي في الحضارة المصرية القديمة كان فريدا، لا يكتفي بالطعام والبقاء، بل بتكريس الموارد والطاقات لإنشاء وصيانة المقابر الضخمة والأهرامات والمعابد، وهو النموذج الذي جعل المجتمع المصري طبقيا منقسما بين فئة كبار الملاك والمسؤولين الأغنياء، وعامة الشعب الفقير.
بناء المقابر الضخمة كان سمة لمصر الفرعونية، وهيمن عليها الاعتقاد بأن الملك شخص مقدس في حياته وبعد وفاته، وكان يمتلك الأرض ويمنحها لمن يريد، فجعل عامة الناس من الشعب تعمل فقط مقابل الطعام والشراب والمسكن، في حين عمل كثير من العمال مقابل طعامهم أو كانوا مجرد عبيد، بحسب نظريات تاريخية بديلة.
وتمكنت الإدارة البيروقراطية الفرعونية خلال 3 آلاف سنة من تطوير السياسة الضريبية بفرض سلطانها، وخزنت الحبوب التي يمكن توزيعها في أوقات المجاعة، وجُلب الحرفيون والعمالة بمقابل زهيد من خزانة المملكة الثرية، بحسب تلك النظريات التاريخية.
وبخلاف الإداريين والمهندسين والمشرفين، كان هناك عمال المحاجر والناقلين والبنائين، إضافة إلى العمال الثانويين الذين كانوا يمهدون المنحدرات ويصنعون الأدوات ويقدمون خدمات الطعام والملابس والوقود، واستمر العمل في أهرامات الجيزة الشهيرة 20 سنة على الأقل.
وعُثر في أبيدوس الواقعة في سوهاج الحالية بصعيد مصر، على نقوش منسوبة لقاضٍ وقائدٍ عسكري يشير إلى عمال لا يحصلون على أجور أو عبيد يعملون بالسخرة.
في المقابل، كان هؤلاء يحصلون على الطعام والملابس ومنتجات أخرى عبر كبار العمال، الذين وزعوا هذه الهبات الملكية على المستويات الاجتماعية الأقل. وكان بعضهم يحظى بمكافأة أن يدفن في مقابر العمال الخاصة بجوار مقبرة الملك.
وفي وادي الجرف (الذي لقب بميناء الملك خوفو على ساحل البحر الأحمر) الذي كشفت فيه بردية وادي الجرف الشهيرة التي تعود إلى عهد خوفو، تحوي النصوص سجلاً لقائدٍ شارك هو ورجاله الأربعون في بناء الهرم من خلال شحن الحجارة من المحاجر إلى موقع بناء الهرم الأكبر في الجيزة.
وهكذا اختلفت النظريات التاريخية التي تفسر بناء الأهرامات واقتصادها بين من يرى أن البناة كانوا نخبة من عمال البناء الذين تمتعوا بامتيازات عالية، وبين من يرى أنهم كانوا عبيدا أو عملوا بالسخرة.