معركة جاليبولي ضدَّ بريطانيا وفرنسا (1915-1916م)
هذه واحدةٌ من أهمِّ المعارك في التاريخ التركي الحديث، ويعتبرها القوميُّون الأتراك النموذج الذي يُريدونه للدفاع عن وطنهم، وفي هذه الموقعة صدَّ الجيش العثماني -على الرغم من تسليحه الضعيف- جيشين لدولتين من أعظم الدول الصناعيَّة في ذلك الوقت؛ بريطانيا، وفرنسا! -أيضًا- تُعتبر هذه المعارك هي الميلاد الحقيقي لمصطفى كمال أتاتورك بطلًا قوميًّا يمكن أن يُعَوَّل عليه للدفاع عن حقوق الأتراك[1].

على الرغم من الانتصارات الإنجليزيَّة على الدولة العثمانيَّة في جبهتي العراق وقناة السويس، والانتصار الروسي عليها في جبهة القوقاز، فإن الحلفاء شعروا أن الدعم الألماني سيُطيل أمد الوجود العثماني في القتال، لذلك قرَّروا حسم المسألة عن طريق احتلال إسطنبول ذاتها، كما أن السيطرة على المضايق البحريَّة ستفتح الطريق إلى روسيا التي كانت في حاجةٍ ماسَّةٍ لإمدادات الحلفاء[2]! لم يكن القرار مجنونًا؛ إذ سبق للقوَّات الروسيَّة في عام 1878م أن اجتاحت الدولة العثمانيَّة حتى كادت تصل إلى العاصمة لولا التحذير الأوروبي، ومرَّة أخرى كادت القوَّات البلغاريَّة -على ضعفها النسبي- تصل إلى إسطنبول في عام 1912م لولا التحذير الروسي!

بدأ الأمر في 17 فبراير 1915م بهجومٍ بحريٍّ من بريطانيا وفرنسا على الدردنيل بغية اختراقه، والوصول إلى إسطنبول، لكن محاولاتهم المتكرِّرة فشلت[3][4]. أراد الحلفاء ألا يُضيِّعوا وقتًا فقاموا بالإنزال البريِّ على شبه جزيرة جاليبولي Gallipoli في 25 أبريل من السنة نفسها[5]. كانت الفرقة الأستراليَّة والنيوزيلنديَّة من الجيش الإنجليزي هي أولى الفرق نزولًا إلى جاليبولي[6]، وحيث إن هذه هي المشاركة الحربيَّة الأولى في التاريخ لجيوش أستراليا Australia ونيوزيلندا New Zealand فإن هذه المعارك أيقظت عند الأستراليين والنيوزيلنديين روح الوطنيَّة، وهي التي يُسمُّونها «روح أنزاك»[7][8]، وأنزاك هي الحروف الأولى من اسم الفرقة العسكريَّة للبلدين في معارك الحرب العالمية الأولى Australian and New Zealand Army Corps (ANZAC)[9][10]. هذه الروح كانت سببًا مباشرًا لسعي الدولتين إلى الاستقلال عن بريطانيا، على الرغم من أنهما لم تُحقِّقا الانتصار في معارك جاليبولي، ولكن تضحيَّاتهما كانت كبيرة، لهذا فإن تاريخ هذا الإنزال العسكري -25 أبريل- يُعدُّ عيدًا قوميًّا في البلدين[11][12]. شارك في معارك جاليبولي خمسون ألف أسترالي، ومن أربعة عشر إلى سبعة عشر ألف نيوزيلندي[13].

جدير بالذكر أن بريطانيا كانت تستخدم جيوش البلاد التي تحتلها في معاركها في العالم، وقد مرَّ بنا استخدامها للمصريين في حرب العثمانيِّين عند قناة السويس، والآن تستخدم الأستراليين والنيوزيلنديين في جاليبولي، واستخدمت الهنود في احتلال العراق، وهكذا، والحقُّ أن الخطأ في هذا الاستخدام يقع على الشعوب المستعبَدة التي قَبِلَت أن تُقاتل في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل أحيانًا كانوا يُقاتلون إخوانهم في الدين أو العرق، وليس مقبولًا في هذه الظروف أن تتعلَّل الشعوب بالإكراه الإنجليزي لها؛ لأنّ الخنوع والخضوع ليس لهما مسوِّغات!

كوَّن العثمانيون جيشًا خاصًّا لمهمَّة الدفاع عن جاليبولي هو الجيش الخامس، وكان بقيادة الجنرال الألماني أوتو ساندِرس Otto Sanders[14]، وكان الجيش يضمُّ عدَّة فرق منها الفرقة التاسعة عشرة، وكانت تحت قيادة مصطفى كمال بك (أتاتورك)[15]، وعليها وقع العبء الأكبر في الدفاع عن جاليبولي. في الفترة من 25 أبريل 1915م إلى 9 يناير 1916م -أي أكثر من ثمانية شهور- دارت عدَّة مواقع طاحنة، ومن أشدِّ حروب الحرب العالمية الأولى دمويَّة، ومع ذلك لم يتمكن الحلفاء قط من التقدُّم في شبه الجزيرة.

كانت لتوقُّعات مصطفى كمال الدقيقة لأماكن إنزال الحلفاء لجيوشهم وتحرُّكاتها الأثر الكبير في نجاح الجيش العثماني في مهمَّته[16][17]. -أيضًا- كان لجسارته، ومشاركته للجنود في الصفِّ الأول، الأثر العميق في ثبات الجنود. لا تزال كلماته القليلة التي قالها لفرقته محفورة في أذهان الأتراك إلى اليوم. لقد قال لهم: «أنا لا آمركم أن تُقاتلوا، ولكن آمركم أن تموتوا! في الوقت الذي سيمضي إلى أن تموتوا ستكون قوَّاتنا الأخرى والقادة قد تقدَّموا ليأخذوا أماكننا»[18]!

بهذه الروح ثبت الجيش بصورةٍ لم نرها في معارك كثيرة. كان شهداء العثمانيِّين وجرحاهم في هذه المعارك أكثر من أيِّ تخيُّل! تذكر بعض المصادر أن إجمالي الضحايا العثمانيِّين (قتلى، وجرحى، ومفقودين، ومرضى) يبلغ مائتين وخمسين ألف جندي! وفي المقابل سقط عددٌ مماثلٌ من الحلفاء[19]! بعض المصادر الأخرى تُؤكِّد أن هذا الرقم (ربع مليون لكلِّ طرف) هو عدد القتلى فقط دون حساب الجرحى والمرضى[20]، وإن كان في هذا شيءٌ من المبالغة! مهما كان الأمر فإن الدمار كان شاملًا، والملحمة كانت تاريخيَّة، خاصَّةً أن هذه الخسائر كانت في ثمانية شهورٍ فقط!

في 8 يناير 1916م أيقن الحلفاء أنهم لن يقدروا على الوصول إلى إسطنبول، فسحبوا معظم قوَّاتهم[21]، ثم استأنفوا الانسحاب الكامل في يوم 9 يناير[22]، ولن تتكرَّر محاولات غزو إسطنبول إلا بعد استسلام الدولة العثمانية في آخر الحرب[23].



[1] Fewster, Kevin; Başarın, Vecihi Hürmüz & Başarın, Hatice Hürmüz: Gallipoli: The Turkish Story, Allen & Unwin, Crows Nest, Sydney, Australia, 2003.., 2003, pp. 6-8.
[2] Aspinall-Oglander, Cecil Faber: Military Operations: Gallipoli, Volume 1: Inception of the Campaign to May 1915, History of the Great War Based on Official Documents by Direction of the Historical Section of the Committee of Imperial Defence, William Heinemann Limited, London, UK, 1929., 1929, vol. 1, pp. 51-52.
[3] قاسم، محمد؛ وحسني، حسين: تاريخ القرن التاسع عشر في أوروبا منذ عهد الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العظمى، مطبعة دار الكتب المصرية-لجنة التأليف والنشر، القاهرة، الطبعة السادسة، 1348هـ=1929م، الصفحات 276، 277.
[4] Broadbent, Harvey: Gallipoli: The Fatal Shore, Viking/Penguin, Camberwell, Victoria, Australia, 2005., p. 40.
[5] فشر، هربرت. أ. ل.: تاريخ أوروبا في العصر الحديث (1789-1950)، ترجمة: أحمد نجيب هاشم، وديع الضبع، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، 1972م.الصفحات 505، 506.
[6] Stevenson, David: 1914–1918: The History of the First World War, Penguin Books, London, UK, 2005., p. 189.
[7] Dennis, Peter; Grey, Jeffrey; Morris, Ewan & Prior, Robin: The Oxford Companion to Australian Military History, Second Edition, Oxford University Press, Melbourne, Victoria, Australia, 2008., pp. 37-42.
[8] Palazzo, Albert: The Australian Army: A History of Its Organisation 1901-2001, Oxford University Press, South Melbourne, Victoria, Australia, 2001., p. 80.
[9] Fielding, Jean & O'Neill, Robert: A select bibliography of Australian military history 1891-1939, Australian National University, Canberra, Australia, 1978., p. 347.
[10] Crawley, Rhys: The myths of August at Gallipoli, In: Stockings, Craig: Zombie Myths of Australian Military History, University of New South Wales Press Ltd, University of New South Wales, Sydney, Australia, 2010., p. 52.
[11] Broadbent, Harvey: Gallipoli: The Fatal Shore, Viking/Penguin, Camberwell, Victoria, Australia, 2005., p. 278.
[12] Wahlert, Glenn: Exploring Gallipoli: An Australian Army Battlefield Guide, Army History Unit, Canberra, Australia, 2008., p. 9.
[13] Coulthard-Clark, Chris: The Encyclopaedia of Australia's Battles, Allen & Unwin, Crow's Nest NSW, Australia, Second Edition, 2001., p. 103.
[14] Broadbent, 2005, p. 40.
[15] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. صفحة 672.
[16] فشر، 1972 صفحة 506.
[17] Broadbent, 2005, p. 42.
[18] Erickson, Edward J.: Ordered to Die: A History of the Ottoman Army in the First World War, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2001., p. xv.
[19] Aspinall-Oglander, 1929, vol. 1, p. 484.
[20] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988، صفحة 2/237.
[21] Broadbent, 2005, p. 266.
[22] https://en.wikipedia.org/wiki/G._W._...olsonNicholson, 2007, p. 480.
[23] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 1209- 1211.