لطالما كانت جذب الأرباح القضية الجوهرية لأي جهة تجارية أو مؤسسة عملية، ولكن طرق الوصول لهذه الأرباح اختلفت كثيرًا خلال السنوات واستمرت بالتطور لأخذ صورة افتراضية بالكامل.
المبيعات الفعلية للمنتجات لا تزال محركًا رئيسا للأسواق إلا أنها تبدو بطيئة الوتيرة أمام فرصة جمع أموال هائلة بفترة زمنية قصيرة عبر ما يسمى بإعلانات الإنترنت، وسنلاحظ اليوم كيف أصبحت هذه الإعلانات ظاهرة تجارية بحد ذاتها وأدت إلى تغيير مسار تطور الشركات نحو طريق أكثر رقمية وأبعد عن الأساليب التقليدية.
تطور الأرباح إلى الإنترنت

إنّ خوارزمية جني الأموال من إعلانات الإنترنت ما هي في الحقيقة إلا عملية تطور طبيعية لأساليب التسويق والترويج لأي بضائعه ترغب ببيعها حتى ولو كانت خدمات غير ملموسة، ففي السابق كانت أساليب الترويج مرتبطة بملصقات منشورة في الطرقات أو عبر حملات متنوعة الأشكال في الشوارع، وبعدها في انطلاقة عصر التكنولوجيا الحديثة بدأت بأخذ صورتها الافتراضية الأولى عبر إعلانات التلفاز التقليدية.
حتى ذلك الوقت لم تكن مثل هذه الإعلانات مثيرة لرغبة الشركات أو عامة المستخدمين بشكل عام وإنما بدت بيئة عمل مستقلة بذاتها وتحتاج إلى ظروفها الخاصة (مثل المحطة التلفزيونية) لكي تحقق الأرباح المطلوبة.

بالمضي أكثر نحو انفتاح العالم وارتباطه بشبكة الإنترنت العالمية، فلم يعد هنالك متطلبات صعبة أو مكلفة لاستغلال ميزة هذه الإعلانات الافتراضية وإنما أصبحت متاحة لكل من يرغب بها، حيث أن صناعة منصة افتراضية من الممكن أن تكون متدنية التكلفة مثل موقع إلكتروني ترفيهي ولا داعي لأن تكون ضخمة مثل فيسبوك وغيره، وكانت جوجل من أوائل الشركات الضخمة التي تمكنت من العمل كوسيط بين المواقع وأصحاب الأعمال، فقد أخذت لنفسها صورة السمسار الافتراضي المعاصر والذي يجلب لك الإعلانات جاهزة ويتوقف عليك زيادة شعبية منصتك قدر الإمكان لرفع احتمالية جني الأرباح من هذه الإعلانات.
لم تكن هذه الهيئة الوحيدة لإعلانات الإنترنت بل شاعت كثيرًا طريقةً أخرى لا تزال محض اهتمام جميع المواقع حتى اليوم وهي الإعلانات المدفوعة التي تظهر بمثابة ملصقات ثابتة في المواقع والمنصات الرقمية وغالبًا ما تعد طريقة ممتازة لجني الأموال ولكن أصعب من سابقتها لما تحتاجه من متطلبات شعبية وفريق مختصص بالتعامل مع الشركات والمشاريع المهتمة بالتسويق الرقمي.
دخول التأثير التجاري المتسارع

الإضافة العشوائية للإعلانات في المنصات الرقمية المختلفة لم تبقَ لفترة طويلة بل اكتشف خبراء التسويق الرقمي وخصوصًا ممن يعملون لدى شركة جوجل بأنها طريقة بطيئة وغير فعالة للغاية في جذب اهتمام الناس، وبذلك انطلق عصر جديد من خوارزميات الإعلانات وجني الأرباح عبرها ويمكن القول إنها المرحلة الزمنية الحقيقية التي شهدت اهتمامًا بالغًا من المستثمرين ورجال الأعمال، إدراكًا منهم الاحتمالات الواسعة لأرقامٍ هائلة من الأرباح بانتظار من يُحسن الوصول إليها.
الخوارزميات الجديدة تطورت من فكرة الوسيط إلى مراكز جمع البيانات وهنالك اليوم في الحقيقة شركات متخصصة بذلك والهدف منها استخدامات مختلف الوسائل والآليات لجمع أكبر قدر ممكن من معلومات مستخدم الإنترنت أبرزها :
  • متى ننقر على الإعلانات؟
  • أي نوع من الإعلانات يفضل النظر إليه؟
  • ما هي الصفحات التي يزورها بكثرة؟
  • كم دقيقة يمضي على الصفحات التي يزورها؟

هذه مجرد أمثلة رئيسة للمعلومات الضرورية لتشكيل خوارزمية الإعلانات الجديدة والتي تهدف إلى إظهار إعلانات أكثر اقترابًا من اهتمامات المستخدم ومختلفة بين الفرد والآخر بحجة أن فرصة الاهتمام بهذه الإعلانات سترتفع بشكل كبير عندما تكون ضمن مجال اهتمامات المستخدم والزائر المستمر لصفحات الإنترنت.
قضية هذه الخوارزميات مثيرة للجدل فمع أنها فعلاً ساعدت أكثر على جذب رجال الأعمال نحو هذا النوع الرقمي من الاستثمار إلا أنها بنفس الوقت هددت خصوصية المستخدم وحياته الرقمية فلم تعد محمية بعد الآن ومن الممكن بكل سهولة التجسس على نشاطه الرقمي دون أن يدرك ذلك حتى، خصوصًا مع انتشار برامج رقمية بمثابة أدوات وظيفتها ملاحقة وتتبع المستخدم أينما ذهب والاحتفاظ بسجل دائم لأنشطته.
2020 واندلاع الحرب الرقمية

لم يكن من الغريب انتقال الجدل إلى حربٍ رقميةٍ أشعلتها احتجاجات ملايين الناس على تصرفات الشركات وأصحاب الأعمال الرقمية الجاحدة بحقوقهم المتمثلة بحرية التصفح دون الشعور بشخصٍ ذي قبعةٍ سوداء يلاحقك أينما ذهبت.

كانت الشركات العملاقة في المقدمة لتلقي الانتقادات وهذا لا يعني شركة جوجل فحسب بل بسبب انتشار تقارير عن بيع شركة فيسبوك معلومات المستخدمين إلى شركات جمع المعلومات (الذين تحدثنا عنهم سابقًا) أدى إلى إقحامها هي الأخرى في هذه القضية مثل باقي منصات التواصل الاجتماعي الأخرى عبر الإنترنت… تويتر - انستجرام - سنابشات وغيره.
بالطبع لم يكن التخلي عن الخوارزمية المثيرة للجدل أمرًا بالحسبان لهذه الشركات ولأي مؤسسة رقمية أخرى وإنما الحل السلمي الوحيد كان احترام خصوصية المستخدم والحصول على موافقته وإذعانه بأنه لا يمانع متابعة نشاطه في الموقع المعين بهدف تحسين تجربته فيه.
وقد قامت شركة جوجل بإضافة ميزة تتيح جميع أصحاب الحسابات لديها بتعطيل "الإعلانات المفضلة" أو بالأحرى إيقاف تفعيل الخوارزميات إن كانت مقلقة ومزعجة.
أين استراتيجية الشركات اليوم؟
عندما راقب أصحاب الأموال هذا النجاح الباهر لفيسبوك وجوجل وأمثالهم كان الأمر مجرد وقت قبل دخول مشاريع وشركات بالمئات والآلوف أملاً بالحصول على هذا النجاح أو بعضًا منه، وحملت فكرة "الشركة الافتراضية" إلى أفقٍ جديدة فقد باتت افتراضية بالكامل ولا وجود فيزيائي حقيقي لها على أرض الواقع وبعضها قد يكون بيئة عمل صغيرة لكن استطاعت بذكاء تحطيم أرقام قياسية بجني الأموال مع أنها ليست بالضرورة شركة حقيقية.
فقد استطاع الشاب السويدي فيليكس شالبرج الذي أسس قناته في يوتيوب سنة 2010 الانتقال من شاب متواضع لا يمتلك لا رأس مال ولا غيره إلى واحدٍ من أثرياء العالم، ويمتلك اليوم موظفين يعملون لديه لتشغيل قناته بالشكل المطلوب بعد تجاوز إيراداته أكثر من 50 مليون دولار دون تعدي تكاليفه المادية بضعة آلاف دولار، وهذه الموازنة لوحدها بين الإيرادات والتكلفة أرغمت جميع الشركات على إدراك أهمية الإنترنت والإعلانات من خلاله بصورها وأشكالها المختلفة.

أما بالنسبة للشركات القائمة مسبقًا على الأرباح التقليدية فقد شهدت تحولاً مثيرًا للاهتمام عبر إزالة قسم التسويق القديم لديها وإنشاء قسم جديد يركز على ما يسمى اليوم "مهارة التعامل مع الزبون الافتراضي" واستغنى الكثير منها بالكامل عن آليات التسويق القديمة والمكلفة بينما اعتمد بعضها بالآخر بالكامل على مهارات الأفراد لديها في فهم هذه الخوارزميات وكيفية استغلالها بالطريقة الأمثل.
لكن رغم ذلك، فإن التواجد الأشهر للشركات الضخمة في الوقت الحالي يقوم على مبدأ الفرصة المحتملة في كل مكان، مثل شركة سوني الغنية عن التعريف، فلا يزال لديها إعلانات تلفزيونية تظهر بين الحين والأخرى وملصقاتها الترويجية منتشرة في مئات المنصات الرقمية وتمتلك أيضًا قنوات التواصل الاجتماعي، حرصًا منها على إيصال رسالتها لكل مكان وبنفس الوقت استغلالاً لفرصة كسب المال من هذه الإعلانات.
يمكننا أن نرى من خلال الشركات الضخمة مثل سوني والشركات الصغيرة التي لا تتعدى هيئة قنوات في يوتيوب، بأن أرباح الإنترنت أصبحت وحشًا مغريًا قلب موازين العمل لدى هذه الشركات وأجبرهم على التكيف بسرعة ورسم استراتيجيات جديدة تساعدهم على تدارك الفرص الرقمية المعاصرة، ونلاحظ من ذلك تضاؤلا بشكل كبير إعلانات سوني على التلفاز مقابل تركيزها الهائل على خوارزمية الأرباح من الإعلانات حصرًا والإنترنت عامةً.