معركة وادي المخازن (القصر الكبير، الملوك الثلاثة) ضدَّ البرتغال: (1578م)
لجأ الملك المخلوع محمد الثالث السعدي إلى ملك البرتغال سبستيان يطلب عونه ضدَّ عمِّه عبد الملك والدولة العثمانية. وجد الملك البرتغالي الشاب (24 سنة) أن هذه فرصةٌ جيِّدةٌ لاحتلال المغرب كلِّه. كان سبستيان يُعِدُّ لهذا الغزو من ثلاث سنوات، وكان يحرص على أن يأخذ الأمر شكل الحرب الصليبيَّة[1]، فأخذ دعم البابا، واستعان بخاله ملك إسبانيا فيليب الثاني، وكذلك ببعض الإمارات الإيطاليَّة، مع مرتزقةٍ من هولندا. جَهَّز الملك البرتغالي أسطولًا من 500 سفينة، ويحمل 18 ألف جندي، وجعل نفسه على قيادته، ودعا معظم نبلاء البرتغال للمشاركة في الحملة[2].
غادر البرتغاليُّون بلادهم في 24 يونيو 1578م، وقاموا بعمليَّة إنزالٍ في ميناء أصيلة في أقصى شمال غرب المغرب بالقرب من طنجة، ثم تحرَّك الجيش البرتغالي جنوبًا حتى التقى والملك المخلوع محمد الثالث يقود ستَّة آلاف مغربي، فاتَّحد الجيشان وتوجَّهوا جميعًا للجنوب لملاقاة الملك عبد الملك السعدي.
تُقَدِّر بعض المصادر مجموع الجيشين بثمانين ألف مقاتل[3]، وإن كنتُ أحسب ذلك مبالغة. كان الملك عبد الملك السعدي مريضًا جدًّا، ونصحه مقرَّبوه بعدم ركوب الخيل، وعدم المشاركة في الحرب؛ لكنه أصرَّ على قيادة جيشه بنفسه، ودعا إلى الجهاد في سبيل الله، وحرَّك الحميَّة الإسلاميَّة في قلوب المغاربة والأندلسيِّين، ولحقت به فرقةٌ عثمانيَّةٌ من تونس والجزائر بقيادة والي تونس رمضان باشا.
التقى الجيشان البرتغالي المتَّحد مع محمد الثالث، والمغربي المتَّحد مع العثمانيين، عند مدينة القصر الكبير على بعد 110 كيلو متر جنوب طنجة، وفي وادٍ يُعْرَف بوادي المخازن، وعسكر كلُّ جيشٍ على ناحيةٍ من نواحي نهر لوكوس Loukkos river[4].
في يوم 4 أغسطس 1578م[5] التحم الجيشان في معركةٍ حامية الوطيس. كانت الصبغة الدينيَّة للمعركة واضحة. البرتغاليون يقودون حملةً صليبيَّةً صريحة، والمسلمون من المغاربة يُدافعون عن بلادهم ضدَّ غزوٍ مسيحيٍّ مباشر، والأندلسيُّون يُجاهدون وفي ذكرياتهم الأذى الذي تحمَّلوه من الإسبان والبرتغاليين، والعثمانيون يُحاربون وهم يستعيدون تاريخ حربٍ طويلةٍ غير حاسمةٍ مع البرتغاليِّين في المحيط الهندي. الوحيدون الذين لا يُفْهَم موقفهم هم فرقة الملك المخلوع محمد الثالث الذين يُقاتلون المسلمين إلى جانب سبستيان وبقيَّة الصليبيِّين! لكن هكذا جرت الأمور!
بدأت المعركة بقصفٍ مدفعيٍّ متبادلٍ بين الفريقين. شاء اللهُ أن يُقْتَل قائد الوسط في الجيش البرتغالي توماس ستاكلي Thomas Stucley بقذيفةٍ في أوَّل ساعات القتال[6]، وكان إنجليزيًّا كاثوليكيًّا متعصِّبًا، وكان من أهمِّ الشخصيات العسكريَّة في جيش البرتغال، وهو من المشاركين سابقًا في معركة ليبانتو[7] التي انتصر فيها الصليبيُّون على العثمانيِّين عام 1571م.
إنَّ قتل هذه الشخصيَّة المحوريَّة في أوَّل لحظات المعركة كان له من الأثر ما يتعدَّى فقد أحد القادة. لقد اهتزَّ مركز الجيش البرتغالي، ولاحظ هذا الاهتزاز الجيشُ المسلم. ركب الملك عبد الملك السعدي جواده على الرغم من مرضه وانطلق محمِّسًا جيشه على استغلال الحدث[8]. أحاطت فرق الخيَّالة المغربيَّة والعثمانيَّة بالجيش البرتغالي، وبدأت أجنحة الصليبيِّين تتأثَّر، كما تأثَّر وسط الجيش.
استمرَّت المعركة أربع ساعات. كان النصر الإسلامي حاسمًا، ودُمِّر الجيش البرتغالي ومعاونيه من المغاربة التابعين لمحمد الثالث. قُتِلَ من الصليبيِّين ثمانية آلاف، وأُسر خمسة عشر ألف جندي[9]! قُتِلَ كذلك ملك البرتغال الشاب سبستيان، ويبدو أنه مات غريقًا فلم يُعثر له على أثرٍ بعد المعركة. قُتِل -أيضًا- في المعركة معظم نبلاء البرتغال، كما قُتِل الملك المخلوع محمد الثالث وهو في صفِّ الصليبيِّين[10].
كانت المعركة قاضيةً تمامًا على أحلام البرتغاليِّين بتوسيع أملاكهم في المغرب؛ إذ فَنِيَ الجيش البرتغالي تقريبًا في هذا الصدام. مات في أثناء المعركة الملك المجاهد عبد الملك السعدي نتيجة الجهد الكبير الذي بذله وهو في مرضه الشديد. نحسبه من الشهداء، وإن لم يُقْتَل بسيفٍ ولا قذيفة؛ لكنَّه كان حريصًا على الجهاد. تولَّى قيادة المغرب بعد وفاته، وفي ساحة المعركة، أخوه السلطان أحمد السعدي[11]، المعروف بأحمد الذهبي، وسوف تكون فترة حكمه للمغرب هي أزهى عصور السعديِّين، وسيمتدُّ حكمه إلى عام 1603م.
كانت للمعركة آثارٌ ضخمةٌ للغاية، وهذه الآثار جعلت المعركة من المنعطفات التاريخيَّة الكبرى في أوروبا بشكلٍ خاص، وفي العالم بشكلٍ عام. محت هذه المعركة البرتغال من على خريطة العالم لمدَّة ستِّين سنةً متَّصلة؛ حيث احتلت إسبانيا البرتغالَ عام 1580م[12]؛ وذلك بعد فناء الجيش البرتغالي، وورثت بذلك إسبانيا كلَّ ممتلكات البرتغال في الدنيا، واستمرَّ هذا الوضع إلى عام 1640م[13].
أعادت هذه المعركة الهيبة للمغرب الكبير، فشهد فترةً من أزهى عصوره، واستغلَّ المغاربة مكانهم الاستراتيجي الممتاز في العودة للتأثير على السياسة العالميَّة. أمِنَت الدولة العثمانية على حدودها الغربيَّة، وتأكَّدت التبعيَّة «المعنويَّة» للمغرب، وظلَّ هذا الوضع إلى نهاية عهد السلطان أحمد الذهبي، وأمِنَت الدولة العثمانية على حدودها الجنوبيَّة كذلك في اليمن وإريتريا؛ إذ لم يعد للبرتغاليِّين قوَّةٌ لحرب العثمانيِّين في المحيط الهندي.
لقد حفر البرتغاليُّون قبرهم في هذه المعركة، وأثَّرت عليهم نفسيًّا بشكلٍ متفاقم، إلى درجة أن الشعب البرتغالي ظلَّ لفترةٍ يظنُّ أن الملك سبستيان سوف يعود لينتقم، وأنه لم يُقْتَل في المعركة، إنما رُفِعَ وسيرجع! وكَتَبَ الأدباء البرتغاليون في هذا الصدد، وانتشرت الأسطورة في البرتغال ومستعمراتها، وهي حالةٌ صارت تُعْرَف في التاريخ البرتغالي بالسبستيانية Sebastianism، وهي معروفةٌ -أيضًا- في التاريخ البرازيلي، لكون البرازيل كانت محتلَّةً من البرتغال[14]، وهذا يُوضِّح لنا مكانة المعركة في التاريخ![15].
[1] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, p. 534.
[2] Grant, R. G.: 1001 Battles That Changed the Course of History, Chartwell Books, New York, USA, 2017., p. 289
[3] Tucker, 2010, vol. 2, p. 534.
[4] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 صفحة 1/ 388.
[5] الناصري، أحمد بن خالد: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري، محمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، المغرب، (دون سنة طبع). صفحة 5/82.
[6] Grant, 2017, p. 289.
[7] Simpson, Richard: Biography of Sir Thomas Stucley. The famous history of the life and death of Captain Thomas Stukeley, J. W. Bouton, New York, USA, 1878, vol. 1, p. 94.
[8] Tucker, 2010, vol. 2, p. 534.
[9] McAlister, Lyle N.: Spain and Portugal in the New World, 1492-1700, Volume 3, Within a series: Shafer, Boyd C.: Europe and the World in the Age of Expansion, University of Minnesota press, Minneapolis, Minnesota, USA, 1984, vol. 3, p. 292.
[10] الإفراني، محمد الصغير: نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تقديم وتحقيق: عبد اللطيف الشادلي، الطبعة الأولى، 1419هـ=1998م، الصفحات 141، 142.
[11] مؤلف مجهول: تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية، تقديم وتحقيق: عبد الرحيم بنحادة، دار تينمل للطباعة والنشر، مراكش–المغرب، الطبعة الأولى، 1994م. الصفحات 61، 62.
[12] التر، عزيز سامح: الأتراك العثمانيون في أفريقيا الشمالية، ترجمة: محمود علي عامر، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ=1989م. صفحة 257.
[13] 75. ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م، صفحة 29/110.
[14] Givens, Bryan: Sebastianism in Theory and Practice in Early Modern Portugal, In: Piterberg, Gabriel; Ruiz, Teofilo F. & Symcox, Geoffrey: Braudel Revisited: The Mediterranean World 1600-1800, University of Toronto Press, Toronto, Canada, 2010., p. 127.
[15] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 555- 557.