عندما كان عمره 12 عاما، ووقع بين يديه كتاب "البؤساء" لفيكتور هيغو باللغة الفرنسية؛ لم يجد الطفل امبارك ولد بيروك مشكلة في قراءته، فوالده آنذاك كان من بين رجال يعدون على الأصابع يدرسون اللغة الفرنسية في الخمسينيات.
وقع الفتى في حب اللغة الفرنسية، وهو الذي ينحدر من أسرة متعلمة، ويعيش في مدينة أطار (شمالي موريتانيا)، التي عرفت بتنوعها العرقي، ومنذ ذلك الحين بدأ رحلته في عالم لغة موليير.
لعبت سهولة الحصول على كتب باللغة الفرنسية دورا كبيرا في تعمق امبارك ولد بيروك في الفرنسية، مدفوعا بشغف بدأ منذ الصغر، وتضافرت تلك الأمور لتجعله لاحقا من أبرز الكتاب الموريتانيين باللغة الفرنسية، لكن موضوع حياة الصحراء في بلده الأم لا يزال شغله الأدبي الشاغل.
روايات امبارك ولد بيروك وجدت صدى دوليا؛ فحصل عام 2016 على جائزة كروما، عن روايته "طبل الدموع"، وهي من أكبر الجوائز التي تعطى لكتاب الرواية الفرانكفونية، وتدور جل أحداث الرواية في فضاء الصحراء، بما يحمله من مضامين رمزية وثقافية واجتماعية في المجتمع الموريتاني، وتعكس أجواء الرواية وأحداثها وأبطالها حالة التجاذب بين الارتباط بقيم البداوة والصحراء والاستجابة لمتطلبات أسئلة الحاضر والتطلع لأحلام المستقبل.


منبوذون

وفي روايته الجديدة "منبوذون"، كما في قصص بيروك التي سبقتها، تخضع الشخصيات للتحولات التي تشهدها موريتانيا، ذلك البلد الذي تتنازعه تقاليد الصحراء العريقة والتغييرات التي يجلبها تحديث يصعب الوقوف في وجهه.
ويستعرض موقع ميديا بارت (Mediapart) الفرنسي في مراجعة بقلم جان لو سمعان رواية "منبوذون" للكاتب الموريتاني مبارك ولد بيروك التي تدور حول مصير أب وابنه، وتصورهما على أنهما شخصان ضائعان، ومحكوم عليهما بذكرى ماض سعيد، ولكنه قد ولى بلا رجعة.


مبارك ولد بيروك روائي فرانكفوني في بلد المليون شاعر

وفي سطور قليلة تلخص لنا إحدى شخصيات الرواية كل الجمال الحزين الذي فقدته، حين تتذكر في مكان ما من الرواية بكل أسف "كنا سعداء للغاية في تلك الليلة، وفي الأيام والأشهر التي تلت ذلك، اندفعنا إلى حفل الشواء الكبير.. ابتلعنا قضمات كبيرة جدا من النعيم، وربما نكون قد استهلكنا حصتنا الكاملة من السعادة هناك".
أول ما يكتشفه القارئ هو هذا "الأب" البدوي الذي يكتب لزوجته، ويشرح لها بأسلوب متدفق كيف كذب عليها، بدافع حبه لتلك الفتاة المدنية التي تبحث عن مكانة اجتماعية، فأخفى أصوله البدوية عنها.


علاقة مخجلة

وهكذا تتوغل بنا الرواية في هذه العلاقة الحميمة المخجلة لرجل من الصحراء يكافح من أجل محو هويته، فيصغر في عين زوجته وأقاربه وينظرون إليه بازدراء، ويعامله صهره مثلما يعامل أي محتال.
في خضم هذه المكاشفة تتبدى لحظة درامية أكثر خطورة، حين يظهر أن هذا الرجل الذي يعترف بأخطائه ويتجرع حزنه على السعادة التي فقدها قد أصبح في السجن، في حين اختفت هذه المرأة أيضا.
وبينما يحاول الأب تجميع قصة حياته في زنزانته، يجد ابنه المراهق نفسه مضطرا لأن يتعلم العيش من دون والديه، ومع تقدم الرواية وتبادل قصة الشخصيتين عبر فصولها، يبدو مسار الأب والابن في تناقض من حيث الشكل والمضمون.
وإذا كانت مناجاة الأب نفسه تشبه المرثية الطويلة لرجل يحاول إسكات شياطينه، فإن قصة ابنه تأخذ مظهر رواية تعليمية؛ موضوعاتها الأساسية نهاية الطفولة وفقدان البراءة، والدخول الصعب في المجتمع، وتخيط حبكتها مشكلة الهوية العائلية المؤلمة المقسمة بين حياة الترحال وأسلوب الحياة المستقرة.
وتشترك قصتا الأب والابن في أنهما تصوران كل عنف هذا المجتمع الذي يمر بمرحلة انتقالية، حيث تدور أحداث جزء كبير من القصة في حي فقير سماه القانون الإداري "الكيلومتر 7″، وهو مصطلح ينزع الإنسانية عن هذه الحياة الحضرية المتشكلة من العنف المادي والرمزي.
وتتضح هذه المعاني أكثر إذا عرفنا أن هذا المكان هو العاصمة الموريتانية نواكشوط، حيث تحمل المقبرة اسم "الكيلومتر 7″، وكأن القصة تدور في مكان لا يوجد له اسم، مما يوحي بفقدان البلد في الرواية، كما يوضح الكاتب.
ويرى جان لو سمعان أن هذه واحدة من السمات المميزة الأسلوبية لولد بيروك، الصحفي والكاتب الموريتاني الذي يكتب بالفرنسية، حيث كل شيء في قصتي الأب والابن تخميني، ولا شيء يتأكد، إذ نجد حديثا عن انحراف وعن جنون يسكن الأب، لكننا لا نعرف عنه إلا القليل.
وهكذا يظهر خلال النص عنف صامت، كما يقول الكاتب، إذ مر أبطال القصة بمأساة حطمت حياتهم، ولكن لا نراها إلا من خلال عواقبها التي لا رجعة فيها، وفجأة يظهر بين ثنايا السرد وصف تلك الليلة المخيفة عندما حدث "ذلك"، كما يقول الابن.


مواجهة العنف الحضري

في مواجهة هذا العنف، يحاول كل من الأب والابن اللجوء إلى السحر، بدءًا من الأحلام، وحتى عالم الجن، حيث يتذكر الأب عائلته على أنها حلقات حقيقية من حياته الماضية، أما عن موضوع تلك الليلة المأساوية، عندما "حدث ذلك" فلا يتذكر ابنه إلا الحلم الذي حلم به في تلك الليلة.
وبهذا المعنى، تصبح طريقة الحياة البدوية عنصرا مطمئنا ومألوفا في مواجهة عداء البيئة الحضرية، حيث تأخذ قصة ولد بيروك أيضا شكل حكاية اجتماعية حول موريتانيا المعاصرة. ويعني "المنبوذون" في العنوان البدو، هؤلاء الرحل الذين هم على وشك الانقراض، والذين يحاولون بأي ثمن الحفاظ على بقايا هويتهم، حسب تعبير الكاتب.
يصف ولد بيروك -في الرواية- مجتمعا منقسما بين البدو وأولئك الذين عاشوا بالفعل في المناطق الحضرية لعدة أجيال.
وخلص الكاتب إلى أن رواية ولد بيروك تكشف الكثير عن موريتانيا، ولكن نطاقها أوسع، مشيرا إلى أن التطلع إلى النجاح الحضري هو الذي دفع الأب إلى الجنون وتركه ممزقا بعيدا عن سعادته.