للغات البشريّة عموما سمات لسانيّة تتميّز بها كلّ واحدة منها من غيرها تجعلها مغايرة أو مختلفة، وكلّ واحدة منها أيضا قد تشاركها فيها لغات أخرى ممّا يجعلها مشابهة، ويحصل هذا عادة في جميع المستويات اللسانيّة، سواء منها الصوتيّة أو الصرفيّة أو التركيبيّة أو المعجميّة، والعربيّة لا تشذّ عن هذا في كلّ حال من الأحوال.
وممّا يميّز اللغة العربيّة من كثير من اللّغات، ما يمكن أن نطلق عليه المرونة اللغوية. فما المقصود بهذه المرونة ؟ وفيم تتجلّى ؟
فأمّا المرونة فهي الطواعية التي تلاقيها هذه اللّغة أو تلك، وذلك في تقليبها أو تقليب عناصرها على أوجهها المختلفة، وحريّة حراك هذه العناصر داخل التركيب أو ضمن الخطاب، ممّا يفسح مجالا واسعا لهذه اللّغة في أدائها أو استعمالها، ولكن بشرط أن يكون هذا في حدود التراكيب المباحة طبعا، وضمن القواعد المفترضة. وأمّا في ما يتعلّق بتجلّيات هذه المرونة فهي تتجلّى في الأوجه التالية :
أولها في المستوى الاشتقاقي: وذلك بالنظر إلى السمة الاشتقاقية البارزة التي تسِم اللغة العربيّة، واللّغات الساميّة بوجه عام. إذ تقوم العربيّة في الأصل على ثلاثة حروف ساكنة تعرف بالحروف الأصول في الكلمة، ويُستفاد من هذه الحروف في كل مجموعة من المشتقّات معنى لغويّ عام مشترك، وذلك من نحو فكرة "الكتابة" أو "الضرب" أو "القيام" أو غيرها. والاشتقاق إمّا أن يكون مطّردا، وذلك من نحو ما نجده في الصيغ الصرفيّة المشتقّة كاسم الفاعل واسم المفعول واسم الزمان والمكان وغيرها، أو من نحو ما نجده في بعض الكلمات التي تتضمن معانيَ اشتقاقية غير خافية ك"القارورة" المأخوذة من القرار، أو"الغراب" المأخوذ من الغربة، أو"الجراد" المأخوذ من الجرد وغيرها. فهذا الاشتقاق هو أداة فعّالة لتوليد الكلمات، أو إرجاعها إلى أصولها، والتوسّع في الرصيد المعجميّ، أو المفرداتي، وإنشاء المصطلحات أو شبه المصطلحات. ومن باب المقاربة لا غير، لو قارنّا جملة من المشتقات، تتعلّق بالحروف الأصول /ك ت ب/ في العربية لوجدناها تكاد تبلغ، أو تفوق الأربع عشرة كلمة، كل واحدة منها قابلة للتصريف، وذلك من نحو كَتَبَ وكَتّبَ وكاتبَ واستَكتبَ، وكِتاب وكُتّاب ومَكتب ومَكتبة وغيرها، في الوقت الذي لا نجد من الكلمات المشتقة المتعلقّة بالكتابة فبي الفرنسيّة مثلا إلّا كلمات محدودة لا تتجاوز الأربع أو الخمس كلمات.
ثانيها في مستولى الأصوات: ويكفي أن نبقى في هذا المضمار، في حدود الحركات. والحركات في العربيّة عددها محدود لا يتجاوز الثلاث حركات، أو ستّ حركات باعتبار الحركات الطويلة أو المشبعة. هذا النظام الحركيّ في العربيّة فقير إذا ما قارناه بأنظمة أخرى كالفرنسيّة مثلا التي تعدّ ستّ عشرة حركة، منها الفميّة والأنفيّة، والأماميّة والخلفيّة، والمفتوحة والمنغلقة، ونصف المنغلقة أو نصف المفتوحة. بيد أنّ نظام الحركات في العربيّة يتمتّع بجملة من الوظائف التي لا تخفى عن العين المراقبة، وهي تتمثّل في الوظائف التالية:
1 وظيفة صوتيّة: إذ من شأن الحركة أن تحرّك الحرف، والحرف في الأصل ساكن غير متحرّك على حدّ رأي الخليل.
2 وظيفة صرفيّة: إذ من شأن الحركة أن تميّز بين الصيغ الصرفيّة، وذلك من نحو صيغة اسم الفاعل واسم المفعول في أمثلة من نحو مُنفَعِل ومنفَعَل ومُستَفعِل ومُستَفعَل، وغير ذلك.
3 وظيفة معجميّة دلاليّة: إذ ما نفرّق كثيرا بين معاني بعض الكلمات بالحركة وحدها، وذلك من نحو سَنَة وسِنَة مثلا، أو بين قَطْر وقُطْر، أو غير ذلك، وهذا في العربيّةكثير.
4 وظيفة إعرابيّة: إذ أنّ الأصل في الإعراب أن يكون بالحركات، وممّا لا يدعو إلى الشكّ أنّ الضمّة علامة الرفع، وأنّ الفتحة علامة النصب، وأنّ الكسرة علامة الجرّ. ولا تقتصر هذه الحركات على حالات الإعراب وحدها، وإنّما تتعلّق بعلامات البناء أيضا.
ثالثها في مستوى التركيب: ذلك أنّ العناصر المنتظمة داخل التركيب أو الجملة لها من المرونة ما لا نجده في أكثر اللّغات. وهذه المرونة مردّها إلى ظاهرة الإعراب والمحلات الإعرابية التي تتمتّع بها العربيّة، إذ ليس بالضرورة أن يكون الفاعل مثلا في رأس الجملة أو بعد الفعل دائما، أو أن يكون المفعول في طرفها، وإنّما يمكن لأيّ عنصر من عناصر الجملة أن يتوزّع بالكيفيّة التي تحلو للمتكلّم المستمع، فيقدّم أو يؤخّر هذا العنصر أو ذاك بحريّة كبيرة، شرط وجود الإعراب، أو العلامات الإعرابيّة التي من شأنها أن تميّز العناصر التي تأتلف منها الجملة في العربيّة.
هذه أوجه من مرونة العربية التي وددنا أن نقف عندها، باعتبارها نماذج دالّة على ما نذهب إليه. وأعتقد أنّنا لا بدّ أن نأخذ،في عصرنا الرهن، هذه النماذج من المرونة معتمَدا لتحسين أداء اللغة العربيّة نطقا وكتابة، وتحسين تعليمها سواء للناطقين بها أو غيرهم، وأن نستفيد من هذا في حلّ الكثير من معضلات اللغة العربيّة، من نحو إيجاد المصطلح وتوحيده، وتحسين مردود الترجمة والنقل. و تبعا لهذا لا يكفي أن تكون هذه المرونة حكرا على العربيّة الفصحى قديما، ممّا جاء في النصّ القرآنيّ الكريم، أو ممّا جاء في الحديث الشريف، وعيون الأدب في الخطابة والشعر، وإنّما لا بدّ أن تكون سمة لغتنا في الوضع الراهن