أفلام مخرجي الثمانينيات عبّرت عن المواطن المهمش وحاربت الفساد واعتمدت على التجريب.
أحمد زكي بطل فيلم "البريء" من إخراج عاطف الطيب (مواقع التواصل الاجتماعي)
هل المخرج مجرد شخص مسؤول عن الإشراف على العمل على المستويين السمعي والبصري وإدارة الممثلين، أم إنه صاحب رؤية وفلسفة خاصة يحاول إيصالها إلى الجمهور عن طريق الكاميرا؟ الإجابة النموذجية هي أن المخرج مسؤول عن ما تراه على الشاشة وما يخلد في ذاكرتك من فلسفة أو رؤية يمررها إليك من خلال العمل الفني، وهي الآلية التي كان يعمل بها أغلب مخرجي الثمانينيات من القرن الماضي، فلكل اسم بصمة ورؤية مختلفة في عالم الإخراج.
الواقعية الجديدة
إن أهم سمة ميّزت مخرجي الثمانينيات هي تمرّدهم على السينما الكلاسيكية بنمطها التقليدي المتعارف عليه، التي امتدت سنوات طويلة، فقرروا الخروج من الأستوديو إلى الشارع لنقل الواقع كما هو، فأطلق عليهم صنّاع سينما الواقعية الجديدة مثل داود عبد السيد ومحمد خان ورأفت الميهي وعاطف الطيب وخيري بشارة، ومع ذلك فقد كان لكل منهم طريقته التي أسهمت في صنع تاريخه السينمائي.
داود عبد السيد.. مخرج وفيلسوف
يعدّ المخرج داود عبد السيد من أهم مخرجي تلك المرحلة؛ فأفلامه تحمل قدرا كبيرا من الفلسفة وفهم الحياة والبشر، ولقّب بفيلسوف المخرجين.
فأفلامه اهتمت كثيرا بإعلاء قيم الفن والعلم والإنسانية بعيدا عن المادة التي باتت تسيطر على المجتمع، وانحيازه كان إلى القصص الإنسانية أكثر من الحدث والوقائع، لذلك نجح في تقديم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على اختلاف مراحلها الزمنية.
داود الذي بدأ رحلته مساعد مخرج ليوسف شاهين اختار أن يكون صاحب بصمة مختلفة، فهو ليس مجرد راوٍ للقصص والحكايات بل حرص على صنع عالم شديد الخصوصية يحاول عن طريقه تقديم الحياة من وجهة نظره، وذلك منذ بدايته مع الأفلام التسجيلية مثل "العمل في الحقل" و"عن الناس والأنبياء والفنانين" حتى قدم أول فيلم روائي له "الصعاليك" في منتصف الثمانينيات، ثم انطلق ليقدم أعمالًا مثل "الكيت كات" و"البحث عن سيد مرزوق" و"رسائل بحر" و"أرض الأحلام" و"أرض الخوف" و"قدرات غير عادية".
ومع أن رحلته امتدت إلى أكثر من 50 عامًا لكنه لم يهتم بالكم على حساب الكيف بل على العكس؛ فرصيده السينمائي 9 أفلام فقط، حرص فيها على مزج السحر والخيال بالواقع، واختار أن يواجه بتجاربه السينما التجارية البحتة.
واعترف داود عبد السيد في أحد حواراته بأنه لا يعدّ نفسه مخرجا محترفا، لأنه يحرص على كتابة سيناريوهات أفلامه؛ فإذا قدّم إليه سيناريو جيد فلن يتمكن من إخراجه حتى لو عرضت عليه ملايين الجنيهات، لأن لديه رؤية وتصورا معينا يريد أن يوصله إلى الجمهور، ولذلك فهو لا يعدّ نفسه محترفا.
محمد خان.. نصير المهمشين
اختار المخرج محمد خان أن ينقل من خلال أفلامه حياة البسطاء والمهمشين وحكايات الشارع البسيط، فضلًا عن اهتمامه بنقل التحولات الاقتصادية والاجتماعية في مصر.
وشارك خان أبناء جيله حالة التمرد على قوالب السينما المصرية السائدة، لكن هوية أفلامه ميزته عن بقية زملائه، فكان شغله التركيز على أفراد لا تسلط عليهم الأضواء، منذ فيلمه الروائي الأول "ضربة شمس"؛ فبطله مصوّر صحفي في إحدى المجلات تقوده الصدفة إلى عصابة لتهريب الآثار، وفي "موعد على العشاء" تقع البطلة في حب مصفف شعر بسيط تقرر الزواج به والابتعاد عن طليقها المتسلط، وفي "مستر كاراتيه" نعيش طوال الأحداث حلم الشاب القروي الذي ينتقل إلى القاهرة ويعمل "سائسًا" لأحد الجراجات (المرائب) ويحلم بالفنون القتالية ويتدرب على الكاراتيه.
وفي "فتاة المصنع" تعمل البطلة الفقيرة مثل بنات الحي الذي تعيش فيه، في مصنع للملابس وتقع في تجربة حب لكنها تواجه المجتمع بتقاليده القاسية، وأفلام أخرى له نسجت على هذا المنوال مثل "في شقة مصر الجديدة" و"زوجة رجل مهم" و"خرج ولم يعد".
عاطف الطيب.. عميد الواقعية
رائد الواقعية الجديدة هو المخرج عاطف الطيب الذي لقّب أيضا بنصير الفقراء وعميد الواقعية التي ميزته منذ أول أفلامه الروائية الطويلة "سواق الأتوبيس".
فالخط السينمائي الذي ميز الطيب في رحلته السينمائية الممتدة 15 عاما التي قدّم فيها ما يقارب 21 فيلمًا هو الواقعية الشديدة واهتمامه بأدقّ التفاصيل التي استطاع نقلها من واقع خبراته الحياتية.
أفلام الطيب المختلفة مثل البريء والهروب والحب فوق هضبة الهرم والدنيا على جناح يمامة وملف في الآداب وكتيبة الإعدام وليلة ساخنة، انصبّ اهتمام الطيب فيها على قضايا وهموم الوطن والمواطن أيضا بصدق وواقعية، فكان حريصا على تقديم رؤى مختلفة وانتقاد الفساد الذي انتشر في المجتمع.
سنوات عمله في السينما لم تكن كبيرة مقارنة بكثير من المخرجين لكنه ترك أثرًا كبيرًا بتلك الأفلام التي تناولت القهر الذي يعانيه المواطن بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ورد فعل المواطن في مواجهة هذا القهر.
رأفت الميهي.. سينما التجريب
يعدّ المخرج رأفت الميهي أيضًا من مخرجي الموجة السينمائية الجديدة التي ظهرت في أوائل الثمانينيات، رغم بداياته الفنية قبلها، لكن تجربته في فيلم "عيون لا تنام" الذي قدمه عام 1981 جعلته من أبرز المخرجين في تلك المرحلة.
غير أن اختياره مواجهة الواقع والقضايا كان من خلال الفنتازيا والكوميديا معتمدا على التجريب بأفلام مثل "سمك لبن تمر هندي" و"السادة الرجال" و"سيداتي سادتي" و"قليل من الحب كثير من العنف" و"الأفوكاتو"، فكان الميهي حريصا على نقد التحولات المجتمعية والأزمات الجوهرية في المجتمع لكن بقالب هزلي.
خيري بشارة.. بين الواقع والفنتازيا
تميزت أفلام المخرج خيري بشارة أيضًا بنقل الواقع سواء أفلامه التسجيلية مثل "صائد الدبابات" و"تنوير" و"حديث الحجر"، وحتى أفلامه الروائية الطويلة مثل "الطوق والإسوارة".
فقد كان متمسكًا بنقل الواقع بقسوته وبشكل صادم، مكتفيا بسرد الأزمات دون طرح أي حلول معبّرا عن عجز المجتمعات، وتميزت أفلامه بطريقة السرد بعيدا عن الحبكات الدرامية التي يعتمد عليها صناع السينما، وهو ما يتضح أيضا في تجربته في فيلم "يوم حلو ويوم مر" الذي ابتعد فيه عن الطريقة التقليدية للسينما، فالفكرة كانت لمجموعة مواقف حياتية تتعرض لها البطلة "فاتن حمامة" التي تتحدى ظروفها القاسية.
وكان بشارة حريصا على نقل المجتمع بواقعيته؛ فنقل الواقع القاسي والصادم في "الطوق والإسوارة" لكنه كان مهتمًا بالتجريب كذلك فانتقل من الواقعية إلى الفنتازيا بأفلام مثل "كابوريا" و"أيس كريم في جليم" و"قشر البندق" و"حرب الفراولة" و"أمريكا شيكا بيكا".