امرأة ترتدي جسدها وكأنه روحها
يثابر الفنان والباحث الأكاديمي والصحافي محمد شرف المعني بالكتابات الفنية على تشكيل نصوصه الفنية الخاصة به، والتي من دون شك ساهمت انشغالاته المهنية في تطويرها، وهو إلى ذلك كالعديد من الفنانين العرب يعمل على طرح جديده عبر المنصات الافتراضية، كي تصل رؤاه الفنية إلى كل مهتم حصيف في ظل حالة الإغلاق العام.
بيروت - في حين يسعى الكثير من الفنانين التشكيلين العرب في بحثهم عن ملامح الإنسان الجديد لأجل تظهيره في عدد من البورتريهات التي يمكن اعتبارها ثورية بجرأتها ولافتة من حيث تنفيذها الفني ومن حيث مضمونها على السواء، يأتي الفنان التشكيلي اللبناني المخضرم محمد شرف ليسوق “إنسانه” بكل ثبات خارج منظومة “الثورة” الشهية ليتابع بدقة وصمت تحوّلاته، أي تحوّلات الإنسان، بدءا من القاع صعودا حتى السطح، وذلك منذ أكثر من ثلاثين سنة.
وعلى صفحته الفيسبوكية يتابع الفنان نشر أعماله الفنية باختيار دقيق من مجموعة أعماله السابقة وأخرى من أعماله اللاحقة، وكذلك تلك التي خرجت للتوّ من مرسمه ليشاركها مع الآخرين.
ومن خلال تلك المنشورات البصرية/ الفنية قدّم ولا يزال سيرة وافية عن الإنسان بكل ما حمل ويحمل من تأثّرات خارجية ساهمت في صقل وجدانه كما تصقل النار الحديد.
بين الإرادي والعفو
محمد شرف: إنسان اليوم هو جسده المُسجى، لأنه الروح في اختباره لذاته وللآخر
ربما لم تكن معظم لوحات شرف ثائرة على العالم الخارجي إلّا من باطن شخصيته المترويّة والمُتمرّسة على الثبات في زمن الأعاصير، فجاءت في معظمها مُتغيّرة ومتحوّلة، ولكن من منطق فنان لم ينكفئ أن يرى الإنسان “إنسانا” حمّالا نبيلا لمرايا العالم وانعكاساته، ودافقا بخصوصية مبنية على تجارب فردية في آن واحد.
معظم أعماله، ولاسيما تلك البورتريهات التي لم يحضر فيها إلّا شخص واحد، رسمها الفنان بوتيرة هادئة لم يرد وربما لم يستطع يوما التخلّي عنها.
ويجدر القول إنه ليس ترفا اليوم أن يستطيع أي فنان إبداع لوحة عابقة بعطر بات نادرا جدا، ألا هو التروّي دون أن ينتشر الملل في أرجاء لوحته. إنه قرار قد يأتي عفويا أو إراديا عند الفنان، أمّا عند شرف فتشي أعماله بأنها نتيجة تلاقح بين الإرادي والعفوي. وترفض لوحاته التخلي عن الشفافية والعاطفية التي لم تقع يوما، وربما نادرا جدا في وكر الميلودراما المزيّفة.
إن المتأمل في البورتريهات، بداية بتلك التي رسمها منذ سنوات عديدة وصولا إلى اليوم وإلى آخر لوحة نشرها الفنان على صفحته الفيسبوكية، يدرك أن سيرة الإنسان في لوحة شرف سيرة السائر القدري في إنسانية تتعرّى من خصائصها التي نطلق الآن عليها الخصائص “الحميدة” دون أي تردّد أو تقاعس.
اختار الفنان في معظم لوحاته السابقة أن يظهر “إنسانه” مواجها بهامته الهزيلة ولكنها قوية بنبلها، للناظر إليه من المُشاهدين، على عكس لوحاته الجديدة؟
وأهم ما يمكن ذكره من اختلاف ما بين أعماله السابقة وأعماله الثلاثة الجديدة التي نشرها مؤخرا على صفحته الفيسبوكية، أن الاختلاف يقع في موقف الفنان تجاه ما يمثل “الإنسان” بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة.
لون البشرة
ميلودراما متجدّدة
يبدو “إنسان” شرف في لوحاته السابقة أنه يملك جسدا وروحا هما عنصران تامان ومنفصلان لا يحل أحدهما في الآخر. ولعل أكثر لوحة تشير إلى ذلك هي تلك التي يظهر فيها شخص غلبت عليه تدرجات اللون الأحمر. شخص يملك عينين، كلاهما مجرد “أداة” للنظر إلى ما هو خارج الجسد والحاضر في العالم. وتسهّل هذه السمة على الناظر إلى اللوحة أن يرى في هذا الإنسان الذي صوّره الفنان كائنا قادرا على التحكّم والحكم على تصرفاته الشخصية بإطلالته على العالم الخارجي.
أما “إنسان” شرف الجديد، فقد ظهر في ثلاث لوحات، في كل لوحة شخص واحد، وتغلب على هذه اللوحات صفتان أساسيتان، لعلهما جديدتان في لوحاته.
أول خاصية أن كل شخص في هذه اللوحات بدا في جدلية غرائبية مع خلفية اللوحة التي لا يمكن التعرّف على ماهيتها: هل هي سماء أم أرض؟ وهي خلفية تكاد “تلفظ” الشخص دفعا أمام نظر المُشاهد، وفق قوة مغناطيسية طاردة.
الناظر إلى لوحات شرف القديمة يرى في إنسانه كائنا قادرا على التحكّم والحكم على تصرفاته الشخصية بإطلالته على العالم الخارجي
أما الخاصية الثانية، وربما هي الأهم، أن شخوصه الثلاثة (امرأتان ورجل) يُمكن، وبكل سهولة أن يحيلونا إلى ما أسهب في الكلام عنه الفيلسوف باروخ سبينوزا والمُختصر بتعبير “أنا عطر الوردة”، أي، وباقتضاب شديد: حين يختفي الحد الفاصل بين الشخص وما يختبره في العالم الخارجي من خلال حواسه، يصبح الشخص هو جسده الذي لم يعد مجرد كساء للروح. وكمثال على ذلك نذكر اللوحة التي ظهرت فيها امرأة ارتدت جسدها وكأنه روحها. إنسان معاصر اكتست سحنته ألوانا متحوّلة أهمها أزرق خاص جدا في بورتريهات الفنان الجديدة. أزرق خاص مائل إلى البنفسجي. لون لم يبح بالبرد ولا بالموت. بدا الأزرق وكأنه استبطن لونا يميل إلى ما جرى على تسميته بـ”لون البشرة”، وكاد يُرى بوضوح لو لم تبدّده نظرات الشخوص المُطلة على ذاتها وعلى العالم في “قفزة” واحدة.
أما المرأة في لوحته وإن كانت أنوثتها حاضرة، لا يمكن أن ينظر إليها المُشاهد إلّا على أنها إنسان أولا وربما أخيرا. ومال الأزرق في اللوحتين اللتين جسّدتا المرأة، إلى أخضر شفّاف غشيه هو الآخر “لون البشرة”.
أرفق الفنان اللبناني اثنين من لوحاته الثلاث بكلمات لها صدى في نفس المُشاهد، أتمّت ما يبدو أنه أعلنه في لوحاته الجديدة بقوله “إن إنسان اليوم هو جسده المُسجى، لأنه صار الروح في اختباره لذاته وللآخر وللعالم المحيط”.
وكتب الفنان “بورتريه من نهاية عام 2021”، “نظرة إلى سنة لم يأت مثلها” و”بورتريه من أيام الحجر”.
ومحمد شرف من مواليد عام 1955، متخرّج في أكاديمية الفنون الجميلة مدينة سان بطرسبورغ الروسية، أنهى دراسته عام 1989، وحصل على الدكتوراه في نظريات الفن المعماري وتاريخه، عاش لعشر سنوات في فرنسا وإيطاليا، وأجرى دراسات معمقة في الفن الجداري، كما مارس الرسم الجداري، وله العديد من المعارض الفردية بلبنان وروسيا وفرنسا وإيطاليا.