صور الحياة اليومية من دون مجاملة أو تحيز



هناك خلط كان الاستشراق سببا فيه وهو النظر إلى فنون البلدان المسلمة، حيث يصف فنونها بالفن الإسلامي، وفي هذا نوع من التعميم، إذ امتدت الحضارة الإسلامية من شرق الأرض إلى مغربها، وكانت في كل بلد تتفاعل مع ثقافته القائمة، لذا لا يوجد شبه كبير بين الفنون في البلدان الآسيوية المسلمة ونظيراتها المغاربية. وعلاوة على التسمية العامة فإن نظرة مغلوطة أخرى ترى في فن الرسم بالبلدان الإسلامية فنا محرما، بينما كانت له حظوة كبيرة فيها. لكن في قرون الانحطاط اللاحقة وقعت محاصرته. فمدرسة بغداد للتصوير، وأشهر رموزها يحيى بن محمود الواسطي، أشهر من يقدم تجربة الفن الإسلامي.

تحلل الباحثة الأكاديمية والفنانة والأديبة البريطانية/ العراقية أمل بورتر، في كتابها الجديد “يحيى بن محمود الواسطي”، الصادر حديثا في نسخة إلكترونية، خصائص مدرسة بغداد للتصوير وملامحها من خلال أعمال يحيى بن محمود الواسطي، وهو أحد أهم مؤسسيها وأشهر الرسامين العرب والمسلمين في أواخر العصر العباسي.
تفضل بورتر، في تقديمها للكتاب، صفة “فنون مدرسة بغداد المتأثرة بالفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية” على صفة “الفن الإسلامي” التي جرت العادة على إطلاقها على الفنون المنتجة في الدول التي تبنت الإسلام دينا.
وترى الباحثة أن مفهوم “الفن الإسلامي” هو في حقيقته مفهوم مضمّخ بفكر استشراقي محض، بكل أبعاد الاستشراق من استحواذ وتوسع وهيمنة سواء كانت ثقافية أم عسكرية، وهي تستند في ذلك إلى أطروحة إدوارد سعيد حول الاستشراق.


مصطلح مغلوط



أول موجة فنية نيرة تحمل خصائص واضحة وتجديدية

تقول أمل بورتر حول تسمية الفن الإسلامي “لقد نجح الفكر الاستشراقي في دول الشرق الأوسط في بسط مصطلحاته، ومنها مصطلح: الفن الإسلامي، لكنه لم ينجح في دول مستعمَرة أخرى، مثل منطقة جنوب شرق آسيا في شبه القارة الهندية، والصين، واليابان وأميركا الجنوبية، وأستراليا وغيرها من المناطق، في أن يسمي فنونها تسميات ذات طابع ديني كالفن الهندوسي أو الفن البوذي، إلخ. لذلك ظلت كلها تُنسب إلى موطنها أو قومية نشأتها أو جغرافيتها، مثلما ظل الفن الهلنستي والروماني والبيزنطي، وفنون اليونان، وفنون عصر النهضة، أو المدرسة الكلاسيكية والرومانسية والسوريالية وغيرها، محافظة على أسمائها”.
وتأكيدا على رأيها تشير بورتر إلى أن النتاجات الفنية والمعمارية في أندونيسيا تختلف كليا عن مثيلاتها في سوريا أو في المغرب، وهذه الخاصية المحلية واضحة في العالم العربي وبقية الدول الإسلامية.
لكنّ الباحثة لا تنفي أن ثمة أفكارا فلسفية تجمعها، فلا طراز فنيا معينا يُحدَّد بدين، بل بفلسفة الدين الواضحة كما في مدرسة بغداد للواسطي، إذ إن النتاجات الفنية لهذه المدرسة وغيرها، المتأثرة بالفكر والفلسفة الإسلاميين، هي نتاج شعوب تلك المنطقة التي تقبلت الإسلام دينا وسط بقية الأديان المتعددة التي كانت سائدة فيها حينذاك.
ترى بورتر أن أعمال الواسطي ومدرسة بغداد للتزويق، كما سميت حينها، كانتا أول موجة فنية نيرة تحمل خصائص واضحة وتجديدية، كسرت الجمود وتجاهل الفن الذي ساد بعد فترة من الازدهار خلال العصور التاريخية القديمة في منطقة الشرق الأوسط.
وتلفت إلى أن كل لوحات الواسطي، التي تعتبر واقعية، وتنقل الصورة الحقيقة للحياة، لم يوثق حولها أيّ منع أو تحريم ديني، وقد أٌنجزت كلها بطلب من الخلفاء المسلمين حينها وبمباركتهم، وكانوا يرسلونها كهدايا.
ويبدو من خلال تلك اللوحات كيف كان المجتمع متجانسا، وفي سلام مع نشاطاته التي يشترك فيها كل أفراده من دون إقامة أيّ حدود أو حواجز جندرية أو غير ذلك، في حين أن المجتمعات الأوروبية المعاصرة لفترة الواسطي عانت الكثير من تدخل الكنيسة في النتاجات الفنية، ووضعت أمامها الشروط والموانع إلى أن تم تجاوزها في عصر النهضة والتنوير الأوروبي.
كما أن الممنوعات والمحرمات التي فُرضت على الفنون، وما زالت تُفرض، جاءت بعد ظهور مدرسة بغداد بمرحلة طويلة.
الإنشاء التصويري



الفنان صور مقامات الحريري ببراعة

تجد الباحثة بورتر أن ما أنتجه الواسطي له مغزى مختلف، وبعد آخر أكثر نضجا من الفنون المتداولة التي كانت سائدة حينها، فأساليبه في جميع لوحاته أوضحت فكرة الإنشاء التصويري بقابلية التكوين/ الإنشاء المتكامل بلباقة.
وتؤكد على أن أعماله توحي أشكالها وتلمح إلى مضامين مألوفة وواضحة للمتلقي، امتزجت مع صيغ فنية مرهفة يعززها التمكن من الحرفة، والكثير من البراعة والممارسة، ومستندة بثقة إلى أسس الحضارات السابقة، يدعمها روحيا الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية المتزاوجان مع الميراث المحلي القائم والسائد بوضوح، وهذا ما يشير إلى اطلاع الواسطي على بقايا الإرث الحضاري القديم.
وتدعم الباحثة ذلك باقتباس من بحث عن “فن التصوير عند العرب ويحيى بن محمود الواسطي” لسميح مسعود يقول فيه، “اهتممت مبكرا بكل ما يتعلق بحركة التصوير العربية التقليدية، لمعرفة فنها الموروث بكل ما فيه من ألوان وإشعاعات متميزة، وهكذا وجدت نفسي محاطا بمراجع كثيرة مزدانة بشواهد وأدلة فنية كثيرة ارتبطت بالمجتمعات السابقة، خاصة في بلاد الشام والعراق، هذا الامتزاج أو الارتباط الحضاري هو الذي وحّد وقارب كثيرا بين الجديد والقديم في نتاجات الواسطي، وساهم في إبداع مَن تتبع خطي أسلوبه في بقية الدول العربية، وخاصة في مصر، حيث أُطلق عليها: مدرسة بغداد للتصوير، فظهرت النتاجات المبهرة الفنية المتعددة والمتنوعة، وكلها اعتمدت أسلوب الواسطي المتزواج والمتمازج مع حضارة مصر القديمة”.
وتستنتج بورتر أن أسلوب مدرسة بغداد ولد صحيا ومشوقا ومكتنزا بالجديد والمثير. ونتيجة لذلك توسعت رقعة الاهتمام به، وبلغ أغلب البقاع الشرق أوسطية حتى وصل الكثير منه على شكل كتب ومخطوطات لمواضيع مختلفة ومتنوعة، وأُرسلت نتاجات تلك المدرسة كهدايا إلى حكام في دول شمال أفريقيا وإسبانيا أولا، ثم إلى أغلب الدول الأوروبية، فاستحوذ أسلوبها على معظم النتاجات الفنية في تلك المناطق.


مقامات الحريري


صور تنقل التاريخ بدقة

تركز الباحثة على البعد التشكيلي في رسوم الواسطي لمقامات الحريري كما تخيلها، موضحة أنه صورها بكرم متناهٍ بصيغته التشكيلية، مستخدما كل التفاصيل التي هي أقرب إلى الواقع، وبكل دقائقها التي شكلت اللوحة، وكذلك كافة التقنيات التي كان يحذقها، وبمهارة فائقة بتفاصيل من مخياله، والتي كان من المفروض أن تكون في تلك القصص المكتوبة، وخاصة ربطه الزمان بالمكان على نحو أوضح، مضيفا إليها ما يبين النص تفصيليا بالكثير من اللوحات، لذا بدت أعمق من الكلمات المقتضبة في النص، حيث صور الحياة اليومية من دون مجاملة أو تحيز، بما فيها من مجالس الأنس والطرب والخمر، ومجالس القضاة، وقوافل الحج، ولم يتردد في أن يشير إلى المحرمات الدينية، ويتطرق لها بجرأة فائقة.
فالشخصيات التي رسمها، وأغلبها من الذكور، تبدو منشغلة بأمور الحياة اليومية بكل ما فيها من مظاهر وتسجيل للحظات الآنية، وقد أعطى أهمية كبيرة للشخصيات التي تنصت وتستمع أو تراقب شيئا ما، وقد ارتسمت على وجوهها تعابير واضحة.
ويقال إن الواسطي رسم الوجوه إما بشكلها الجانبي وإما بإبراز ثلاثة أرباعها، لكن ثمة وجوها مرسومة من الأمام والتعابير واضحة عليها. ورغم تكرار شخصية الرجل، كما جاءت في المقامات كلها بلسان وصوت الرجل، فإن الواسطي لم يغفل المرأة في لوحاته، بل صورها، وركّز على وجهها المعبّر وجسمها باستداراته الطبيعية، ولم يحاول مواراتها او تجنبها، بل أوضحها وجعلها بؤرة النظر.
لم تكن المناظر الطبيعة هي الموضوع الإنشائي، بل جاءت ضمن سياق المادة، إذ إن المواضيع عامة كانت تصور الحياة اليومية بكل أبعادها، فلوحات الواسطي، فضلا عن قيمتها الفنية الجمالية، تحمل بعدا تسجيليا وثائقيا.



تصوير البعد الثالث لإيهام المشاهد

لقد صور الواسطي الطبيعة، فكان في أحيان كثيرة ينقل عنها حرفيا، وأحيانا أخرى يحوّرها ويختزلها أو يجردها، وفي الأغلب كان يترك لخياله العنان في تصوير المناظر الطبيعية، لكن من وجهة نظره هو، لكونها تعزيزا وتكريسا للإنشاء التصويري. فرسوم الواسطي لا تقلد الطبيعة، بل تستعير منها الكثير من مفرداتها، يوظفها على نحو مقنع وكأنها جزء من المشهد، ولم يهتم بالمقاييس الحقيقية للمفردات، بل كبّرها وصغّرها لتناسب الموضوع والإطار العام للوحة.
كما حاول الواسطي تصوير البعد الثالث لإيهام المشاهد، وذلك بتغيير الألوان من الفاتح إلى الداكن، واختلاف الأحجام من الكبير إلى الصغير، فضلا عن أنه باستعماله للون كان يحاول تتبع نفس الحدث، ويكسر الملل والرتابة، ويعبّر عن روحية متفردة للواقعة، وألوانه تبرز ما يتخيل وليس فقط ما يرى، وإذا ما استعمل الألوان البراقة فقد كان يختارها بكثير من الدقة للمحافظة على توازن الأشكال، على عكس ما نرى في المنمنمات الآسيوية التي تطغى عليها الألوان الصاخبة، والحركات العشوائية للأشكال الحية والجامدة التي غالبا ما تعوم في فضاء اللوحة، وتفقد حجمها الطبيعي، فإما هي مبالغ فيها أو على العكس.
يُذكر أن أمل بورتر، المولودة في مدينة كركوك لأب إنجليزي وأم عراقية، درست الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وأكملت دراستها العليا في موسكو، وعملت بعد عودتها إلى العراق في متحف الآثار، ثم باحثة في مجال الفنون، ومحاضرة في عدد من الجامعات البريطانية والسويدية والدنماركية وجامعة السلطان قابوس في عُمان، وأقامت معارض تشكيلية في بغداد وبيروت ولندن وفيينا ومسقط ونيوكاسل (المدينة البريطانية التي تقيم فيها حاليا).
كما أصدرت ثلاث روايات هي “دعبول”، و”سوسن وعثمان” و”البلابل لا تغرّد”، وترجمت كتابين هما “سيرة الأميرة البابلية ماري أسمر”، و”الأنثى في ديانة العراق القديم”.