لا يعرف التاريخ أمة وضعت تاريخها و دونته بيدها كما فعل اليهود، فقد صاغه فى إطار من المقدسات و الغيبيات وجعلته كله وحياً من السماء نافذاً بإرادة الله، ومن ثم فهو فوق كل الجدل و النقاش. وكان طبيعياً أن يلجأ اليهود إلى تدوين نشأتهم الأولى إلى مزيج من الخرافات و المأثورات الشعبية للأم القديمة، و التى أضافوا إليها ما تبقى فى ذاكرتهم من الحكايات الفلوكورية منذ بدايتهم الاولى. والهدف من ذلك كله هو أختيار بنى إسرائيل و أصطفاؤهم و تسليمهم دور البطولة على مسرح الإنسانية، أما باقى الأمم فهى ليست إلا شخوصاً مكملة لملحمتهم الكبيرة.
و إذا رجعنا إلى التوراه، كتابهم المقدس، و البحث عن اصول هذه المجموعة البشرية، نجد أنها سميت عبر التاريخ بأسماء مختلفة، فقد سموا أولاً " عبريون " ثم قيل لهم " بنى إسرائيل " و أخيراً عرفوا بأسم " اليهود ".
وكلمة عبرى مشتقة من فعل شائع فى اللغات السامية كلها، هو فعل عبر، أى تخطى و أجتياز. وقد كانت كلمة عبرى تطلق على من يهاجر من العراق فيعبر نهر الفرات بأتجاه الشام. وكان اليهود أول العابرين، حسب ما ورد فى يوشع إصحاح.
هذه الحوادث ربما تكون قد وقعت فى بداية الألف الثانى قبل الميلاد. ولا ندرى لماذا قصر المستشرقون لقب عبرى على اليهود وحدهم، علماً بأن إبراهيم هو أبو العرب عن طريق أبنه إسماعيل، و الأقرب إلى المنطق أن يرتبط العبور الذى ينسب إليه العبرانيون بقصة يعقوب بن إسحق أبن إبراهيم، وذلك أعتماداً على ما جاء فى سفر التكوين.
و ترتبط تسمية بنى إسرائيل أيضاً بقصة أخرى ليعقوب نفسه عندما كان فى طريقه إلى أرض كنعان. وقد جاء فى سفر التكوين 32 أنه بعدما أنتهى من عبور النهر ليلاًن وجد رجلاً فى أنتظاره ليس كالبشر، قيل إنه ملاك من السماء، فصارعه حتى مطلع الفجر.
أما تسميتهم " اليهود " فهى حديثة نسبياً، إذ أنها ترجع إلى عهد داود و سليمان عندما نجحا فى إقامة مملكتهما حوالى سنة 1000 ق.م. وما كانت الأسرة الحاكمة تنتمى إلى قبيلة من العبريين تدعى سبط " يهودا "، فقد نسبوا إليها الرعية و اصبحوا يسمون " اليهود ".
اليهود نفسهم قد أختلفوا و تبانيت آراؤهم فى الحديث عن أصولهم الأولى. فقد جاء فى أشعياء أن النبى أشعيا ينسبهم إلى كنعان على أيام السبى البابلى، و يسمى اللغة العبرية نفسها لسان كنعان، بينما جاء فى التوراه، على لسان موسى نفسه.
القدس :
كانت قد تسمى قديماً " يبوس " نسبة إلى أهلها اليبوسيين، وهم بطن من بطون الكنعانيين العرب. و من أهم ملوكهم " ملكى صادق " وهو أول من أختطها وبناها، وكان وديعاً محباً للسلام، و من هنا جاء أسمها " سالم "، وعرفت فيما بعد بالأسم الكنعانى " أورسالم " أى مدينة السلام. وقد ورد ذكرها فى الكتابة الهيلوغروفية المصرية و البابلية تحت اسم " بروسليمو "، كما ورد ذكرها فى يوشع. وقد شهدت هذه المدينة كثيراً من المعارك التاريخية، وتوالى عليها الغزاة و الفاتحون، تارة يحاصرونها و يدكون أسوارها، وتارة يفتحونها بعد أن يؤمنوا عليها. وقد أستطاع داود أنتزاعها من أيدى اليبوسيين سنة 1000 ق.م.
خلف سليمان داود فينى هيكله على جبل موريا. وفى سنة 586 ق.م. هاجم الأشوريون القدس فخربوا المدينة و حطموا معابدهم و تركوها خراباً، و سبوا اليهود إلى بابل. ثم استولى عليها قورش ملك الفرس فأعاد السبى و رمم المدينة وبنى هيكلها ثانية. وفى القرن الرابع قبل الميلاد دخلت فى حكم الأسكندر المقدونى وفى حكم من ورثه من السلوقيين و البطالسة.
وفى سنة 63 ق.م. دمرها بومبيوس و نكل باليهود شر تنكيل. وفى عهد هيرودوس الكبير عمرت المدينة على الطراز الرومانى الوثنى. و أصاب المدينة بعد ذلك الخراب و الدمار على أثر قمع الثورات و أعمال الشغب التى كانت بها الحاليات اليهودية من وقت إلى آخر. وفى سنة 70 م شدد " تيطس " الخناق على اليهود وهدم منازلهم و أحرق هياكلهم، وقتل و اسر منهم خلقاً كثيراً. وفى سنة 135م أخمد أدريانوس ثورة اليهود، و أزال كل معالم أورشليم اليهودية و المسيحية. ثم أعاد بنائها على طراز وثنى أطلق عليها اسم " إيليا كابيتولينا "، و أقام فوق القبر المقدس هيكلين وثنيين نصب فوقهما تمثالى المشترى و الزهرة، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد لليهود فى القدس أسم يذكر.
وعندما تولى قسطنطين عرش الأمبراطورية الرومانية الشرقية جعل مدينة " ايليا " تابعة له. وفى سنة 335م زارت الملكة هيلانة أم قسطنطين بيت المقدس و بنت فيها كنيسة القيامة. وفى سنة 614 تعرضت للغزو الفارسى الذى هدم معظم ما فيها من كنائس و الأديرة، و لكن هيركل الرومانى أنتصر عليهم ودخل " أيليا " حاملاً على كتفه خشبة الصليب التى أستردها منهم.
وفى سنة 36 هــ فتح المسلمون البيت المقدس، فأمنوا أهلها على أنفسهم و أموالهم و كنائسهم، و أخذوا عهداً بذلك وهو المعروف " بالعهدة العمرية ". ومن هنا نرى دخول الإسلام إلى فلسطين، ولم يدخل العرب كما تدعى إسرائيل، فالأمران مختلفان تمام الأختلاف.
نستطيع القول، أعتماداً على التاريخ المدون لا الخرافى، أن تاريخ العبريين بدأ فى فلسطين سنة 1030 ق.م.، وذلك بتتويج الملك " شاوول " بفضل الجهود التى بذلها نبيهم صمويل. وقد عرفت هذه الحقبة ملكين كبيرين فقط هما داود و أبنه سليمان الذى أنتهى حكمه سنة 920 ق.م.
وبوفاة سليمان تمزق ملك بنى إسرائيل و أصبح الوجود العبرى فى فلسطين الناحية السياسية وجوداً ضعيفاً مهدداً بالزوال. وعلى ذلك فإن الحقبة التى قامت فيها لليهود قائمة فى فلسطين القديمة لا تتعدى كلها قرناً واحداً من الزمان، أى من 1030 ق.م. إلى 920 ق.م.، وهذا كل ما يمكن أعتماده خلال ستة أو تزيد من وجود الشعب الفلسطينى الأصيل فى هذه البلاد.
لقد أنشطرت مملكة سليمان بعد موته إلى شطرين : أحدهما فى شمال فلسطين و يعرف بأسم مملكة إسرائيلن وكانت عاصمتها السامرة قرب نابلس، و الأخر فى جنوب فلسطين و يسمونه مملكة يهوذا و عاصمتها القدس ( أورشليم ).
فى سنة 63م أحتل الرومان فلسطين، وشددوا الرقابة على اليهود لكثرة ما قاموا به من قتن و ثورات آخرها ثورة " بركوكبا " سنة 132 فى عهد الأمبراطور إيليوس هدريان. فأصدر الأمبراطور أمراً بقتل أى يهودى يعثر عليه فى فلسطين، وهدم أى بناء عليه أية علامة تثبت أنتماءه لليهود. ثم غيرت أسماء المدن فأخذت اسماء رومانية مثل أورشليم التى عرفت بأسم " ايليا " من أسم الأمبراطور " ايليوس. ومنذ ذلك التاريخ لم تقم لليهود قائمة حتى 1948 عندما أعلن حاييم و أيزمان قيام دولة إسرائيل.
شعر اليهود بالطمأنينة فى ظل الدولة الإسلامية منذ البداية، فقد منحهم العرب حرية لم يروها حتى فى عهد سليمان. فأنهم على عهده كانوا يشكون من فداحة الضرائب، وكان من أثر ذلك ما ذكرناه من تصدع المملكة و وأنقسامها إلى شطرين على أثر موته مباشرة. كما تمتعوا بحرية ممارسة شعائرهم الدينية، فقد وافق المسلمين على تنصيب الحاخام الأكبر بوستنائى رئيساً للطائفة كلها فى العالم الإسلامى. و عين حاخام أكبر ليهود العراق و مقره مدينة الكوفة. ويسمح الخليفة عبد الملك بن مروان لليهود بممارسة دراساتهم و شعائرهم فى القدس ( أورشليم )، كما أن الجاليات اليهودية فى مصر، و بخاصة فى الأسكندرية و الفيوم، وكذا فى شمال أفريقيا، و خصوصاً فى فاس و القيروان تم فى الاندلس، عرفت الازدهار الأقتصادى و الفكرى.