هناك دوما أشخاص نرمقهم في الأفق، نعرفهم ولا يعرفوننا، ولا يلتقون بنا أبداً، لكننا نلتقى بهم دوماً، يشكلون عقلَ الأمة، وقلبَها النابض رقة ورأفة تجاه بنى قومهم، إنهم يتألمون لآلام قومهم ويغتاظون ممن سببها، لكنهم أبدا لا يفترون عن خدمتها، فهم لا ييأسون، ولا يعرف اليأس طريقه إليهم، وهم لا يملون خدمة الحق والخير والعدل؛ ذلك أنهم يحملون بضاعة غالية وسلعة غالية: إنهم يحملون مبادئ السماء وتعاليمها ليبددوا بها ظلمات الجهل والحماقة والغباء، فلديهم همة عالية لا تعرف القنوط ولا يتسرب إلى أرواحهم – بسببها – ملل. لقد قاموا بواجبهم في تربية فكر الأمة، صنعوا رجالا يحسنون البناء والتشخيص والعلاج. وكان محمد فريد وجدي من هؤلاء الأشخاص، فهماً وفقهاً وسيرة وخدمة للحق والعدل.

يقول العقاد في كتابه رجال عرفتهم عن محمد فريد وجدي:
"هو فريد عصره غير مدافع.. وتلك كلمة مألوفة ولطالما قيلت عن عشرات من حملة الأقلام في عصر واحد.. كلهم فريد عصره، وكلهم واحد من جماعة تعد بالعشرات.. فلا معنى لها في باب العدد، ولا في باب الصفات، ولا سيما صفات الرجحان والامتياز.. إلا أننا نقولها اليوم عن فريد وجدي لنعيد إليها معناها الذي يصدق على الصفة حرفاً حرفاً.. ولا ينحرف عنها كثيراً أو قليلاً.. حتى في لغة المجاز.."

ثم قال العقاد أيضًا:
"وأوجز ما يقال عنه أنه لم يخلق في عصره من يتقارب المثل الأعلى والواقع المشهود في سيرته كما يتقاربان في سيرة هذا الرجل الفريد..

نعم الفريد حتى في لغة الجناس.. لأن اسمه فريد، والفريد حتى في عزلته لأنه كان في عزلة النساك والرهبان، عليماً بالتحليل والتحريم..

رحم الله ذلك القلب الطهور.. وذلك الخلق الفريد: إن يكن اليوم لا يذكر اسمه حق ذكراه فما هو بالقصور ولا الخمول.. ولكنه يعيش في عزلة من دنيا التاريخ كما عاش أيامه في عزلة من دنيا الحياة".

ويذكر د. عبد الحليم محمود شيخ الأزهر سابقاً مدى انتفاعه بمجالس فريد وجدي الذي كان يؤمها وزائريه في منزله بعد صلاة المغرب من كل يوم.. حتى أفاد منها د. عبد الحليم في تعرف الاتجاهات المختلفة كما فتح له أبواب الموضوعات التى تشغل أنصار الفكرة الإسلامية ليلقي عليها مزيداً من الضوء والمناقشة ثم لتكون مادة للبحث العلمي حين تنقل من الندوات إلى المجلات والكتب.

ويرى د. رجب البيومى أن من المسار المبهج أن نجد ثلاثة من علماء المسلمين العرب تترجم أكثر مؤلفاتهم إلى معظم لغات بنى الإسلام وهم: فريد وجدي وطنطاوي جوهري ورشيد رضا، فاكتسبوا شهرة إسلامية تجعلهم في طليعة علماء كل دولة يعتنق بنوها الإسلام ديناً .

من مواقف محمد فريد وجدي
1- يورد د. رجب البيومي هذه الحكاية بنفسه فيقول:

"صاحبتُ الأستاذ وجدي وجالسته فرأيت في أخلاقه الرفيعة نبياً ملهماً، وما ظنك بإنسان يقوم لخادمه إذا دخل عليه مهما تعددت مرات دخوله؟

فإذا سألته في ذلك أحاب متسائلاً عن الفرق بينه وبين الزائرين من الضيوف.

2- ذات مرة وعلى إثر مناقشة بين فريد وجدي وبين رشيد رضا اتهم رشيد رضا الأستاذ وجدي بأنه جاهل ولما لم يناقشه الأستاذ وجدي إلا كما يناقش الصديق الصديق، وسئل في ذلك قال:

"إن كلينا يحارب في جبهة واحدة.. هي الجبهة الإسلامية، وإذا كنا نحاول الرفق مع خصوم الإسلام لنستدرجهم إلى سماع ما نقول، فإن الرفق بأصحاب الاتجاه الواحد أدعى وألزم" والحق إنها وجهة نظر عاقلة قلما رأيت الناس يسلكونها.

3- راسل عامل بريد نصراني الأستاذ وجدي (وقد كان رئيسا لتحرير مجلة الأزهر الشريف) بعشر رسالات طوال تزيد الرسالة الواحدة على ست صفحات طوال، فرد عليه الأستاذ وجدي على بريد العامل النصرانى الخاص، وقد طلب بعضهم أن يجمع الأستاذ فريد تلك الردود والمقالات معا في كتاب مستقل فكان رده:

"لقد أرسل إلي هذا الرجل رداً مليئا بالأفكار الخاطئة وذلك بعد أن كتبت مقالاً عن الإسلام والمسيحية في مجلة الأزهر وخفت أن أنشره معقباً بدحضه فيحدث النشر بلبلة لدى إخواننا المسيحيين، لا أرتضيها، ثم خشيت أن أهمله فيظن حديثه صحيحاً.. فرأيت أن أفند آراءه في كتاب مستقل بعثت به إليه ولكنه أسهب وانتقل من موضوع إلى موضوع فدفعني ضميري إلى الرد عليه وكرر التعقيب فكررت الرد آملاً أن ينتهي النقاش عند حد حتى إذا نفد صبري اعتذرت بعد عشر رسائل ثم قال بتواضع وأدب: إن الفكر أمانة وصاحب القلم ليس مخيراً دائماً فيما يكتب ولكنه يُفاجَأ أحياناً بما لا سبيل إلى السكوت عنه فيحمل يراعه – قلمه – كما يحمل المجاهد في حومة القتال سلاحه، والله عليم بذات الصدور".

4- ويحكى أن الأستاذ وجدي ردّ على قاسم أمين بكتاب (المرأة المسلمة) الذي كان المورد الأول لمن يريد رأى الإسلام في هذه القضية، وواصل مقالاته حتى صادفت مقالة له أحد الوعاظ فاغتاظ من الأستاذ وجدي ووصف وجدي فريد بما ليس فيه وتهور وبالغ في كلماته فرد فريد وجدي على محتوى كلام الواعظ ولم يتحدث عما وُجّه إليه من إساءة فازداد الواعظ في تطاوله جداً جداً حتى اغتاظ بعض تلاميذ الأستاذ وجدى وقال له د . رجب البيومى: إن الرد على أمثال هذا المتشنج يزيد من غروره.. فقال الأستاذ وجدي كلمة تسجل بأحرف من نور لمن يعقلون قال:

"ليست القضية قضيتي ولا قضيته، ولكنها قضية القارئ البصير، وهذا القارئ سيتلو الرأي ونقيضه ثم يجنح إلى ما يستصوب، فالرد واجب، ومحاولة تجاهله تأييد للخطأ، وهزيمة للصواب".


مؤلفات محمد فريد وجدي
-المدنية والإسلام (ألفه وهو ابن عشرين عاما وقد ألف بالفرنسية ثم ترجم للعربية وغيرها).
-دائرة معارف القرن العشرين (ألفه في عشر سنين).
-من معالم الإسلام (مجموعة مقالات كتبت بمجلة الأزهر ثم جمعت ككتاب).
-على أطلال المذهب المادي (3 أجزاء).
-الوجديات (كتاب في أصول الحوار).
-المرأة المسلمة (ألف بغرض الرد على أفكار قاسم أمين التى خالفت في بعضها رأي الإسلام).
-مهمة الإسلام في العالم (يحتوى على 24 مبحثا).
-السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة (يحتوى على 40 فصلاً).
-ليس من هنا نبدأ.
-في معترك الفلسفيين.
-المستقبل للإسلام.
-أوقات الفراغ.
-وله كتاب موجز في تفسير القرآن ترجم للغات عديدة.

هذا وقد رأس تحرير مجلة الأزهر الشريف وكتب فيها مقالات عديدة ربما لو جمعت لشكلت نواة جيدة لعدة كتب مفيدة في مجالات مختلفة.

الخطوط العريضة لفكر العلامة محمد فريد وجدي

يتركز فكر فريد وجدى رحمه الله في:
عرض الإسلام لأبنائه كما نزل من معينه الصافي.
تصفية الإسلام من شُبه الأعداء والحاقدين وعرضها بصورة جيدة يقبلها العقل الحر اليقظ.
حين تقرأ كتبه تحس أن هذا الرجل يدور في فلك هذا السؤال:
كيف نفهم الإسلام شريعة صالحة للإصلاح والحكم؟
صبغ الدعاة للإسلام بالصبغة العلمية والفلسفية.
محاربة الإلحاد وإبرازه على أنه آفة في العقل.

الخطوط العريضة لشخصية العلامة محمد فريد وجدي

من خلال كتاباته (فضلاً عن رأي معاصريه وتحليل فكره) يمكن تحديد بعض النقاط العريضة التي تتشكل عليها هذه الشخصية كما يلى:
- واثق بنفسه
- رزين متزن حليم... يقدر مشاعر الآخرين .
- جندي مجهول.
- عظيم القدر.
- منظم، علمي، عقلاني (فلسفي الطرح).
- نشط.
- طموح.
- عملي...إصلاحي...
- موضوعي.
- فريد.. ولكلٍ نصيب من اسمه.

من الدروس التي نتعلمها من دراسة هذه الشخصية:
إن النفوس العظيمة التي تصحبها فطرة نقية وعقل يقظ تتشابه في الإنتاج والإبداع (فريد وجدي – رشيد رضا- حسن البنا - محمد أبو زهرة - محمد الغزالي -وغيرهم).
إن العقول الكبيرة التى تتشبث بثوابت الأمة تُلهم أفكارا كبيرة بها تصلح الأمة: يعيشون بها ولها.. من هذه الأفكار ( الإلحاد آفة- الدين أساس الإصلاح – الدين فطرة...).
إن الدعاة الصادقين يتناسون الأذى في أشخاصهم ويركزون على أهدافهم، ولعمرى لو أن أحدهم التفت لمن يهدمهم ما بنوا إنجازا يذكر، ولعمرى إن ذلك لموطن تختبر فيه عظمة النفوس ويقظة العقول.

لقد رأينا علماء يطويهم الصمت ويسحب عليهم ذيل النسيان ولكن.. غدا يذكرهم المخلصون من أبناء أمتهم وفي الآخرة عوض جميل.. إن شاء الله تعالى.

في النهاية..
كانت هذه سيرة رجل طواه بعض النسيان لكنه سيبقى في ضمير الأمة حياً كلما فكر النسيان أن يسحب ذيله عليه.. ولقد رأيت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم رجالاً - نحسبهم على خير- يعيدون إحياء تلك النجوم التى نفخر بهم حين نقول: هؤلاء من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم.

سيد يوسف
قصة الإسلام