يركز كتاب جديد على الاحتكاك بين العربية واللغات الأخرى وتأثيرها الهائل على تاريخ لغات مثل الإسبانية والفارسية والتركية، بينما يحذر نقاد من خطورة الركون لماضي العربية الزاهر
تعد اللغة جزءا رئيسا من حياتنا اليومية، نستخدمها في كل لحظة وفي كل موقف للتعبير عن أفكارنا ومشاعرنا وكل ما نود إيصاله للآخرين، فاستخدامنا للغة هو مماثل تماما لعملية التنفس، التي نقوم بها في كل لحظة بدون أدنى تفكير وبشكل تلقائي لا واع.
واللغة في حياتنا تطال جميع النواحي والجوانب الشخصية والنفسية وصولا إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية والتاريخية.
وفي كتابه (اكتساب اللغة: نظريات ودراسات في اللغة والعقل واللغويات) الصادر حديثا عن الدار العربية للعلوم ناشرون، في بيروت، يستعرض الدكتور موسى الأحمري، وهو أستاذ جامعي، حاصل على درجة الدكتوراه في اللغويات من جامعة إنديانا الأميركية، أسس هذا المجال النظرية وتصوراته اللغوية والأدلة والحجج الداعمة لهذه التصورات.
ويغطي الكتاب الموضوعات الرئيسة، التي يهتم بدراستها في اللغويات واكتساب اللغة كالقدرة اللغوية والكفاءة اللغوية والقواعد العالمية، كما يقدم المؤلف خلاصة نتائج لمجموعة كبيرة من الدراسات والأبحاث العلمية في هذا المجال اللغوي، الذي يتطور ويتنامى بسرعة.


القوة الناعمة

يوضح المؤلف أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل البسيط؛ بل من الممكن أن تستخدم للسيطرة والهيمنة.




كتاب "اكتساب اللغة: نظريات ودراسات في اللغة والعقل واللغويات" صدر حديثا عن الدار العربية للعلوم ناشرون

بدوره، يقول المستعرب والأكاديمي الإسباني، خوسيه ميغيل بويرتا، "أظن أن هذه المقولة صحيحة؛ لكنها عامة، والعكس صحيح أيضا؛ أعني أن اللغة يمكن استعمالها كذلك أداة للمقاومة والتحرير. ومثال للمقولة الأولى؛ الأمر الذي أصدرته السلطات القشتالية المحتلة لمملكة غرناطة، دولة الأندلس الأخيرة، بمنع الغرناطيين من استعمال اللغة العربية وارتداء ملابسهم التقليدية وإقامة حفلات الأعراس".
وأضاف بويرتا، مثالا لاستعمال اللغة للدفاع عن النفس، في الأدب الفلسطيني مع غسان كنفاني ومحمود درويش وسواهما.
ومن جهته يؤكد الناشر والمترجم السوري، سامح خلف، المقيم في السويد، أنه لطالما كانت اللغة واحدة من أهم وسائل القوة الناعمة -وفق المصطلح الحديث- التي تمهد الطريق أمام أي مشروع حضاري. هكذا كان دور اللغة العربية يوم كان للعرب مشروع تقدمي وتنويري اقتحموا به العالم. فقد ترجموا حينذاك العلوم إلى لغتهم، ثم قدموا علومهم بلغتهم، فأقبل الناس على تعلم العربية؛ لأنها لغة العلم والعصر.
ويبين الأحمري أن اللغة قد تستخدم لأغراض نفعية (براغماتية)، بهدف التأثير، أما المستعرب والأكاديمي الإسباني بويرتا، فيرى -في حديثه للجزيرة- أن استخدام اللغة لأغراض نفعية هي خاصية من خصائص اللغات بشكل عام. ومنها التعبير عن الرأي في النقاش، وحتى في الصراع السياسي، وفي التعبير عن المشاعر والأفكار عند التواصل بين الأشخاص وبين الثقافات بواسطة الترجمة.


تاريخ اللغات

ويعتبر الأحمري أن اللغويات قدمت تصورا جديدا عن علاقة لغات العالم بعضها ببعض، وركزت في بحثها على أوجه التشابه بين اللغات. ويؤكد المؤلف أن الأبحاث اللغوية الحديثة تمكنت من تتبع أصول معظم اللغات حول العالم.
ويوضح الأحمري أن التشابه في المفردات بين لغتين لا يعني بالضرورة أن هناك ارتباطا جينيا بينهما، فاللغة الإسبانية تحتوي على عدد من المفردات العربية نتيجة الاستعارة والاحتكاك اللغوي؛ لكن العربية والإسبانية لغتان مختلفتان تماما، ولا تربط بينهما أي علاقة جينية مباشرة.
ويضيف الكاتب، كذلك اللغتان التركية والفارسية واللتان تحتويان على الكثير من المفردات والكلمات العربية، لا تربطهما أي علاقة جينية، والاختلاف بينهما وبين العربية كبير جدا في القواعد والتراكيب العميقة. ويؤكد المؤلف أن اللغة العربية كانت لغة الثقافة العالمية منذ القرن الثامن وحتى القرن الـ12، وكان الأتراك والفرس والأوروبيون يكتبون باللغة العربية، ضمن لغات أخرى.
وبدوره، يقول بويرتا إن هناك الكثير من الدراسات حول هذا الموضوع حتى أن هناك معاجم دونت المفردات الإسبانية المشتقة مباشرة من اللغة العربية، ويضاف إلى ذلك العديد من التعابير الإسبانية المنحدرة من تعابير عربية مماثلة.




المستعرب والأكاديمي الإسباني خوسيه ميغيل بويرتا ينوه إلى وجود بصمة عربية حاضرة بقوة في إسبانيا

وأضاف بويرتا، يعتبر الخبراء في اللغة الإسبانية أن ذخيرة المفردات ذات الجذور العربية تزيد عن 4 آلاف مفردة، بما فيها أسماء أماكن كثيرة.
وأشار بويرتا أن بصمة اللغة العربية ملموسة أكثر في اللغة الإسبانية المستعملة في جنوب إسبانيا. وعلى الرغم من أن هذا الكم من المفردات يمثل نسبة محدودة في القاموس الإسباني، بيد أنه يلفت النظر إلى أن معظم المفردات الإسبانية المشتقة من العربية تنتمي إلى مجالات الزراعة والبساتين والعمارة والمصنوعات اليدوية، بالتالي، فإن لها علاقة وطيدة بالحياة اليومية للإسبان.
ويضيف بويرتا لا شك أننا نحن الإسبان نكن محبة خاصة للغة العربية، ويمكن القول، بدون مبالغة، إن الكثير منا يشتاق إلى هذه اللغة، التي كانت لغة الثقافة الأندلسية، وبالتالي لغة أساسية للهوية الإسبانية.
وبين بويرتا في حديثه للجزيرة نت، أن اللغة العربية غدت بين اللغات الحديثة الأكثر طلبا للتعلم من الأجيال الجديدة للإسبان. ودليل على ذلك أنه تم استطلاع الرأي في مجموعة من معاهد الثانوية لإقليم أندلسيا قبل أعوام، واستنتج من خلاله أن طلب اللغة العربية تعدى طلب اللغة الإنجليزية من التلاميذ؛ لكن لم يتم توفيرها في تلك المعاهد حتى الآن للأسف.
وأوضح الأحمري أن العلاقة بين اللغة العربية والعبرية من ناحية أخرى هو مثال على ترابط جيني، حيث تعود كلتا اللغتين إلى أصل لغوي واحد، وتشترك مع عدة لغات أخرى ترتبط فيما بينها ارتباطا جينيا مشكلة عائلة لغوية واحدة، تسمى عائلة "اللغات السامية".
ويقسم المؤلف اللغات السامية إلى قسمين رئيسين: شرقي وغربي، القسم الشرقي ويحتوي اللغات الأكادية القديمة كالبابلية والآشورية، أما القسم الغربي فيتفرع إلى قسمين هما القسم الأوسط والقسم الجنوبي، ويضم القسم الأوسط أهم اللغات السامية، العربية والعبرية والآرامية، ويحتوي القسم الغربي على لغات قديمة كالكنعانية والفينيقية.
ويحتوي القسم الجنوبي على اللغات السامية الأثيوبية وأهمها الأمهرية، ويقول الكاتب إن اللغات السامية تتشارك في كثير من أوجه تراكيب الجملة مع اللغات الهندو-أوروبية.


عائلات لغوية

ويشير المؤلف إلى أن اللغات، التي طورت نظاما للكتابة، يعود أقدمها إلى قرابة 5 آلاف سنة قبل الميلاد، كالهيروغليفية عند المصريين القدماء، والصينية القديمة عند الصينيين، والفينيقية عند الفينيقيين والكنعانيين، التي تعود إلى قرابة 1500 سنة قبل الميلاد، مقارنة بتجربة تعلم الإغريق النظام الأبجدي من الفينيقيين نتيجة العلاقات المباشرة معهم والتجارة المتبادلة قرابة الألف سنة قبل الميلاد.
وحول وضع اللغة العربية اليوم يعلق خلف قائلا حال اللغة العربية اليوم من حال العرب، فقد تراجع دورها، وتكاد تنعدم أهميتها على المستوى العالمي؛ نظرا لخروج العرب من حلبة السباق الحضاري، واكتفائهم بدور التابع أو المتفرج. إذ لم يعد العرب يأتون بشيء جديد يغري أحدا بتعلم لغتهم، إلا فيما ندر.




الناشر والمترجم السوري سامح خلف يحذر من تآكل العربية رغم دقتها وقوتها وتاريخها الثري

ويؤكد خلف في -حديثه للجزيرة نت- أن اللغة العربية ليست بخير، فهي تعاني من الإهمال؛ رغم وجود مجامع لغوية في كل بلد عربي؛ حيث إن فاعلية تلك المجامع محدودة إن لم تكن معدومة، باستثناءات قليلة جدا؛ إذ لا ينبغي للمرء أن يهمل الإشارة إلى الجهد الطيب والمثمر لمبادرات مثل معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، ومجمع اللغة العربية بالشارقة، ومجمع اللغة العربية بالناصرة في فلسطين.
لكن من يبقي على حيوية اللغة العربية، ويبث فيها روحا لا تموت -وفق خلف- هم النخبة من الكتاب والمبدعين العرب، الذين يواصلون الكتابة بهذه اللغة الجميلة والغنية والقادرة على التعبير عن أدق المشاعر وألطفها، مع قدرتها على حمل الأفكار النظرية المجردة. فهم يصونون اللغة ويحمونها من طوفان الرداءة والبذاءة المنفلت من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
وحول مرونة اللغة العربية يتصور خلف أن اللغة العربية، بذاتها، لغة حية ومرنة؛ لكنها أصبحت ثقيلة على نفوس الناس للأسباب آنفة الذكر. ولا جدوى من الحجج التي يلجأ إليها البعض في معرض الدفاع عن اللغة العربية وإلباسها أحيانا لبوسا مقدسا؛ مثل القول إنها لغة القرآن، أو التفاخر بعدد مفرداتها الهائل، وبأنها إحدى اللغات الرسمية المعتمدة من الأمم المتحدة.
ويعلل خلف محذرا "الركون إلى أن العربية لغة القرآن قد ينتهي بها بأن تصبح لغة للتدين فقط؛ أي لغة قديمة مثل اللاتينية. وملايين المفردات التي تتضمنها ولا تستخدم لن تفيد شيئا، كما أن اعتمادها في الأمم المتحدة لم يؤد إلى الإقبال عليها".