كانت مدينة تدمر العريقة مركزا يربط حضارات وإمبراطوريات مختلفة وتميزت بتعددية ثقافية صنعت فلسفة جمالية متميزة
طوال 5 سنوات، ظلت مدينة تدمر بسوريا تحت سيطرة الجماعات المسلحة، وبعد خروجها منها تكشّف حجم ما تعرضت له آثارها ومعالمها التاريخية من تدمير ونسف، ولم يكن الهدف منه محو ذاكرة المدينة وما ترويه مواقعها من عراقة فحسب، بل تدمير تراث عالمي مملوك للإنسانية، ولم يستنطق بعد.
وفي معرضها الإلكتروني الأول باللغة العربية بعنوان "العودة إلى تدمر"، تحاول مؤسسة "جيتي" الرائدة عالميا في مجال الفنون والثقافة إعادة اكتشاف إرث مدينة تدمر القديمة وتاريخها الثري، عبر مجموعات استثنائية من الصور النادرة لأطلال المدينة العتيقة، للمصوِّر الفرنسي لويس فيغنس (1831–1896)، ورسوم أبدعها المعماري الفرنسي لويس فرانسوا كاساس (1756-1827)، وذلك بوسائل تكنولوجية حديثة، أضيفت إليها نصوص جديدة وترجمة إلى اللغة العربية.
تدمر من أقدم المدن التاريخية في العالم حسب تصنيف اليونسكو
ويسلط المعرض الضوء على التعددية الثقافية التي تمتعت بها مدينة تدمر العريقة، نظرا لموقعها الجغرافي الذي جعلها مركزا للتجارة، حيث تربط بين حضارات وإمبراطوريات مختلفة، وكانت ملتقى لتنوع بشري نشأ في صحراء الشرق الأدنى واستمر لعصور عدة، وهو الذي جسدته منحوتاتها وهندستها المعمارية التي مزجت بين نماذج عمرانية فريدة ومتنوعة، وصنعت فلسفة جمالية متميزة.
وتعد مدينة تدمر الأثرية -التي تتوسط خريطة سوريا، وتتبع إداريا محافظة حمص- من أقدم المدن التاريخية في العالم، وهي مدرجة منذ عام 1980 على لائحة اليونسكو للأماكن التاريخية المحمية دوليا.
وتأمل مديرة معهد بحوث "جيتي" ماري ميلر أن يسهم المعرض في رفع الوعي الأثري بالتاريخ الثري لمدينة تدمر، بعد أن عانت من أوضاع صعبة جراء الحرب في سوريا.
بعيون غربية
ويبرز المعرض مصادر تاريخية جديدة تسلط الضوء على تاريخ تدمر من منظور باحثين أجانب درسوا المنطقة دراسة عميقة، وتعزز بدراسات باحثين من أبناء المدينة؛ كالباحث وليد الأسعد، وهو نجل مدير الآثار والمتاحف في تدمر الأسبق خالد الأسعد، الذي قُتل أمام الملأ عام 2015 على يد تنظيم الدولة الإسلامية أثناء محاولته الدفاع عن التراث الثقافي للمدينة.
من رسوم المعماري الفرنسي لويس فرانسوا كاساس
وفي سبيل ذلك، تعاونت "جيتي" مع فريق مكون من 5 باحثين واختصاصيين عرب، لتقديم المشورة في كل خطوة من خطوات الإعداد للمعرض، سعيا لتقديم قراءة وافية وتجارب مرئية شاملة تتسم باتساق محتواها وجاذبيتها باللغتين العربية والإنجليزية.
ويضم المعرض مصادر معلومات إلكترونية إضافية، توثق لمدينة تدمر قبل وبعد الدمار الذي لحق بها، ومن ضمنها موقع لمشروع رقمي مخصص للحفاظ على ذاكرة تدمر التراثية، ويستعرض أعمالا افتراضية لإعادة بناء المدينة ونماذج ثلاثية الأبعاد لأهم آثارها.
وتتيح مؤسسة "جيتي" الوصول إلى معظم صور معرض "العودة إلى تدمر" النادرة ومشاركتها رقميا، وإعادة استخدامها مجانا، وذلك بموجب رخصة "المشاع الإبداعي"، تعزيزا لالتزامها ببرنامج "المحتوى المفتوح".
وترى فرانسيس تيرباك أمينة المعرض ورئيسة قسم الصور أن غاية معرض "العودة إلى تدمر" أن يصبح أكبر مصدر معرفي للطلاب والباحثين والجمهور المهتم بالتعرف على هذا الموقع التراثي العالمي من خلال المعرض الإلكتروني وغيره من المصادرة المطبوعة والإلكترونية.
فرانسيس تيرباك تأمل تعزيز المعرض معارف الطلاب والباحثين حول تاريخ تدمر
وقالت تيرباك للجزيرة نت إن "أهمية تدمر النابعة من كونها جزءا من التاريخ الثقافي للعالم لا يمكن تجاهلها، وهو ما دفع مؤسسة "جيتي" لمشاركة معرفتها حول كنوز تدمر في الماضي والحاضر وزيادة الوعي بها، إذ من المهم أن نلفت انتباه العالم للوضع الهش للمدينة التاريخية التي كانت مجتمعًا مزدهرا، ولاحتياجات أهلها المقيمين فيها إلى الآن، ولهؤلاء الذين يمنون النفس بالعودة لها يوما ما".
وبالإضافة إلى مدينة تدمر، أدرجت منظمة اليونسكو 5 مواقع أثرية سورية أخرى على لائحة التراث العالمي، وهي أحياء دمشق القديمة، وقلعة المضيق، وقلعة الحصن، وحلب القديمة التي تعد أقدم مستوطنة بشرية موجودة حاليا في العالم، وواحدة من أكبر المراكز الدينية في العالم القديم، ومدينة بصرى القديمة، والقرى الأثرية شمال سوريا، حيث توجد المناطق الواقعة شمال الهضبة الكلسية، وتضم مئات الأديرة والكنائس القديمة.
المعرض يتيح الوصول إلى صور تدمر النادرة ومشاركتها
لؤلؤة الصحراء
وبين عامي 2015 و2017، شن تنظيم الدولة هجوما على أبرز أطلال المدينة العتيقة، الملقبة بلؤلؤة الصحراء، ومنها معبدا "بعلشمين" و"بل"، وموقع "التترابيلون"، وواجهة المسرح الروماني الذي يعود للقرن الثاني قبل الميلاد، وبعض أعمدة الشارع الطويل، والعديد من المدافن البرجية الواقعة غرب المدينة، التي يرجع تاريخها بين عام 9 قبل الميلاد و128 بعد الميلاد، لا سيما "إيلابل" و"يمليكو" و"كيتوت"، وتعكس هذه المدافن -التي أطلق عليها التدمريون القدامى اسم "بيوت الأبدية"- طرازا معماريا تدمريا بامتياز.
وبعد أن نسف تنظيم الدولة قبل خروجه من المدينة ما تبقى من معالم، تعرضت سابقا للزلازل والتخريب والنهب والتهديدات الطبيعية على مر العصور، وجاء دور قوات النظام السوري، التي نقلت آثارا من حول المدينة إلى مخازن في العاصمة دمشق، وترددت أنباء عن بيع قطع منها في السوق السوداء لصالح شخصيات سورية نافذة، ويعتقد أنها سلكت طريقها إلى خارج سوريا.
المعرض يقدم مصادر تاريخية جديدة تسلط الضوء على تاريخ تدمر
وسلط عثور شرطة حماية التراث الثقافي في إيطاليا على تمثال جنائزي أثري ضخم مسروق من مدينة تدمر، وُجد لدى أحد مقتني القطع التاريخية في مدينة أتسي؛ الضوء على حجم النهب الذي تعرضت له الآثار السورية التي تفرقت حول العالم، ولم تكتشف بعد.
وبذلت اليونسكو جهودا لتقييم الضرر الذي لحق بالمعالم الأثرية في مدينة تدمر وباقي المواقع التاريخية في سوريا، ونظمت عددًا من الاجتماعات الإعلامية للدول الأعضاء والهيئات المعنية لتقييم الوضع الراهن ومناقشة الإجراءات المستقبلية، وتوجت بالدعوة لمؤتمر دولي من أجل تنسيق تدابير الحماية المستعجلة للتراث السوري.